[ تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين 252] بعد ذكر تلك القصة المرشدة الهادية لكل مستبصر معتبر ، بين الله سبحانه أن هذه الآيات المتلوة هي من عند الله وهي تتلى بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنها تتلى على الرسول الكريم وهي معجزته وآية رسالته ، وإنما ذلك بعد هذه القصة لما فيها من الدلائل الواضحة البينة التي تثبت رسالة النبي الكريم ؛ لأن ذلك القصص الصادق جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب ، لم يجلس إلى معلم ، ولم يأته علم لا بطريق كتاب يقرؤه ، لأنه ليس بقارئ ، ولا بطريق معلم يعلمه ، ولا بتلقين من أي جهة كان التلقين ، إذ كان صلى الله عليه وسلم من أمة أمية ليس فيها علم مدون في كتب ، ولا علماء يتدارسون ، ولم يكن جو علمي ينال منه الأريب بالخلطة والاتصال ، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ذا نجعة وأسفار ، بل لم ينتقل من مكة إلا مرتين كانت أولاهما وهو غلام ، وكانت الثانية وهو يقارب الخامسة والعشرين .
فإذا كانت حال النبي كذلك والقصص جاء على ذلك النحو من الأحكام والإرشاد والتعليم وبيان سنن الاجتماع والحكم الأمثل والقيادة الرشيدة مع صدقه في ذاته ، فهو دليل على أنه من عند الله .
و الإشارة في قوله تعالى:[ تلك آيات الله] إلى الآيات المتلوة من قوله تعالى:[ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل . . .246] ( البقرة ) إلى آخر القصة وكانت الإشارة للبعيد ، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات من أولها إلى آخرها ولعلو شأنها ، وكمال معانيها والوفاء في مقاصدها . وإضافة الآيات إلى الله لأنها جزء من القرآن وكله من عند الله ، فالإضافة لتقرير هذا المعنى وتوكيده ، وتنبيه الأذهان دائما إليه ليعطوه حقه من الفهم والتدبير والاسترشاد به ، والاعتبار بما اشتمل عليه من مواعظ وقصص وعبر .
و قوله تعالى:[ نتلوها عليك بالحق] يفيد أمرين:
أولهما:أن القرآن كان يتلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويتلقاه بالروح الأمين . وإسناد التلاوة إلى الله العلي القدير مع أن الذي كان يلقي القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل ، للإشارة إلى أن تلاوة جبريل هي تلاوة الله فهو رسوله الأمين إلى رسله المكرمين .
الأمر الثاني:أن ما في القرآن حق دائما ، أي أمر ثابت لا يقبل التغيير فليس لأحد أن يقول إن القرآن صالح لزمان دون زمان ؛ لأنه الحق الثابت المستقر الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فعلى العقول أن تتفهمه وتتدبره ثم تخضع لأحكامه المستقرة الثابتة من غير محاولة للتغيير أو التبديل .
و التلاوة هي القراءة المتتابعة المفسرة الواضحة التي تتصل فيها المعاني وتتسابق فيها الألفاظ بحيث يكون الأداء ممثلا للمعنى مصورا له . وقد قال الراغب في مفرداته إن مادة "تلا"أصلها بمعنى تبع متابعة ليس بينها ما ليس منها ، وذلك يكون تارة بالجسم ، وتارة بالاقتداء في الحكم ومصدره تلو وتلو ، وتارة بالقراءة وتدبر المعنى ، ومصدره تلاوة . .
ثم قال:"والتلاوة تختص باتباعكتب الله المنزلة تارة بالقراءة ، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي وترغيب وترهيب ، وهي أخص من القراءة . فكل تلاوة قراءة وليس كل قراءة تلاوة ".
فالتلاوة خاصة بقراءة كلام الله سبحانه وتعالى بمقتضى التخصيص القرآني .
و قد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى:[ وإنك لمن المرسلين] .
و إن ذلك كالنتيجة ؛ لأن الله سبحانه وتعالى يتلو عليه آياته بالحق والصدق ، فإن تلك الآيات برهان النبوة ومعجزة الرسالة ، وقد أكد الله سبحانه وتعالى رسالة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بثلاثة مؤكدات:
أولها:"إن "، فإنها في أصل معناها للتأكيد ، وهو يصحبها في دلالتها دائما .
و ثانيها:"اللام "في قوله تعالى [ لمن] .
و ثالثها:"الجملة الاسمية "، وإدخاله صلى الله عليه وسلم في عداد المرسلين .
و إنقوله تعالى:[ وإنك لمن المرسلين] يدل على أمر آخر ، وهو أن إرسال رسول من قبل رب العالمين أمر مقرر ثابت معروف عند أهل العلم فلم تكن رسالة محمد ، وهو من البشر ، بدعا ، ولا أمرا غير مألوف أو معروف فلا يماري في أصل الرسالة إلا جهول ، أو جحود .
و إن القرآن وحده حقا هو الدلالة على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض .