ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ( 99 )
يذكر القرآن أخلاق بني إسرائيل في ماضيهم الممتدة في حاضرهم ، إذ قد اتصف بها حاضرهم كما اتصف بها ماضيهم ، وهو الإنكار لكل ما يجيء به نبي من الأنبياء ، فيذكر الله سبحانه وتعالى ما تلقوا به ما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات بينات .
الآيات البينات هي القرآن ، وقد فسر بعضهم الآيات بالآيات الكونية ، وإن ذلك بعيد ، لأن وصف الآيات بالبينات دليل على أنها الآيات المتلوة ، وهي بينة ؛ لأن الكتاب بين واضح في ذاته ، وواضح الدلالة على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونلاحظ إشارة بيانية في الدلالة على أنه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله تعالى:{ أنزلنا إليك} بالتعدية ب"إلى"دون التعدية ب"على"إذ كان التعبير في غير هذه بالتعدية ب"على"، كقوله:{ نزل به الروح الأمين ( 193 ) على قلبك لتكون من المنذرين ( 194 )} [ الشعراء] ، وكانت التعدية للدلالة على أن النزول والرسالة هي متجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهذا النبي الأمي المقصود بالرسالة ، وكان حقا عليهم أن يتبعوه بمقتضى البشارة التي بشرت به التوراة والإنجيل .
وقوله تعالى:{ ولقد أنزلنا إليك} إشارة إلى أن هذه البينات وحدها فيها الدلالة على صدق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي المعجزة الكبرى التي تحدى بها عباده أجمعين ، الجن والإنس والأجيال كلها{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( 88 )} [ الإسراء] وقد جاءت على يد النبي صلى الله عليه وسلم خوارق للعادة حسية كثيرة ، ولكنه لم يتحد المشركين وغيرهم أن يأتوا بمثله إلا بالقرآن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:( ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي إلي ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ){[99]} .
وكانت المعجزة من هذا النوع ؛ لأن رسالة محمد خاتمة الرسائل الإلهية ، وهو خاتم النبيين ، فكانت من نوع الكلام الذي يبقى متحديا الأجيال كلها حجة قائمة إلى يوم القيامة .
ولقد أكد الله تعالى نزول القرآن باللام وقد ، فقال تعالى:{ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} ولكن كفروا{ وما يكفر بها إلا الفاسقون} ، أي المتمردون في الكفر الخارجون عن كل حد ، إذ إنها آيات واضحة شاهدة بصدق ما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالفاسق الكافر المتمرد الخارج عن كل حد ، ولقد قال الحسن البصري:إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي ، وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره ، فالفاسق الكافر أشد أنواع الكفر ؛ لأنه تمرد على كل معقول .
وقوله تعالى:{ وما يكفر بها إلا الفاسقون} نفي وإثبات للدلالة على أن الكفر بهذه الآيات البينات لا يمكن أن يقع من إنسان فيه الفطرة الإنسانية ، بل لا يقع فيه إلا المتمرد على الفطرة وعلى كل ما يتقاضاه العقل المدرك ، واللام في{ الفاسقون} للجنس وليس المراد بها قوما معهودين ، وإن كان أشد من ينطبق عليه الأمثال اليهود الذين كفروا بها . وإن اليهود إذا كانوا فسقوا ، وكفروا بالقرآن الكريم معجزة النبي صلى الله عليه وسلم ، فهم قد نقضوا العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه في الميثاق الذي أخذ عليهم ، وناقضوا أنفسهم ، إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .