فإذا كانوا قد كفروا بالكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد نقضوا عهدا أخذ عليهم مرارا ، نقضوا الميثاق الذي أوجب تعالى عليهم أن يؤمنوا برسله ، ونقضوا العهد الذي أخذوه على أنفسهم إذ كانوا يستفتحون على الذين كفروا ، ولما عقد النبي صلى الله عليه وسلم الميثاق بينهم وبينه عندما هاجر نقضوه جميعا ؛ فنقضه بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير وأوى الناقضون إلى خيبر ، وشنوها حربا مشبوبة على المؤمنين{[100]} .
وقد بين الله تعالى أن ذلك شأنهم ، فقال:{ أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} الهمزة للاستفهام الإنكاري لإنكار الواقع ، وهو ما يقع منهم من نقض العهد ، ونبذ للمواثيق ، والواو عاطفة وهي مؤخرة عن تقديم ؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما ، والمعنى أنكروا الكتاب والنبي الذي عرفوه كما يعرفون أبناءهم ونقضوا الميثاق ، وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم إلى آخر الآية ، وتأخير العاطف عن الاستفهام كثير في القرآن من مثل قوله تعالى:{ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ( 50 )} [ المائدة] وقوله تعالى:{ أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون ( 51 )} [ يونس] وهكذا مثل ذلك كثير في القرآن المبين .
{ أو كلما عاهدوا} تدل على نقض العهد بين طرفين ، وأكثر ما تكون عهود اليهود بين رب العالمين وبينهم ، والعهد الذي يكون بين طرفين لا ينقض إلا بتراضيهم ، ولكنهم لا يلتزمون بذلك ، بل ينفردون بالنقض ، أو بعبارة أدق لا يعرفون معهودهم ، وقال تعالى:{ نبذه فريق منهم} النبذ الطرح والرمي ، ومعناه في العهود ، نبذ الوفاء وطرحه ، من غير موجب ولا مراعاة ذمام ، ولم يجز القرآن النبذ إلا عند الخيانة ، كما قال تعالى:{ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( 58 )} [ الأنفال] .
ونسب سبحانه وتعالى النبذ إلى فريق منهم ولم ينسبه إلى جميعهم ، لأن الله العدل الحكيم لا يقرر إلا ما هو عدل حكيم ، وقد سكت سبحانه عن موقف الفريق الآخر فهل مالأه ؟ الظاهر أنه إن لم يمالئ فلم يستنكر ، ولم يمنع وهو قادر على المنع ؛ ولذا يصح أن ينسب إلى جميعهم إذ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، لبئس ما كانوا يفعلون ، ولقد حكم الله تعالى عليهم بقوله:{ بل أكثرهم لا يؤمنون} ف"بل"هنا للإضراب ودفع معنى يتوهم من قبل ، وهو أن أكثرهم فاضل ، ومانع لهم من الشر ، وذلك لقوله تعالى:{ نبذه فريق منهم} ، فبين سبحانه أن كثرتهم لا يؤمن بالحق فقال تعالى:{ أكثرهم لا يؤمنون} فنفى سبحانه وتعالى عنهم أصل الإيمان بشيء من الفضيلة أو الخلق فبعضهم يمعن في الشر إمعانا والآخرون يسكتون ولا يتحركون لأن الأكثر لا يؤمنون ، فكل من كان على مثل حال هؤلاء اليهود كان كل كلامه وأفعاله لا يصدر عن قلب مؤمن مذعن للحق .