ثم صرح بأن القرآن منزل من عند الله وحده ، وأنه في نفسه آيات بينات لا يحتاج إلى آية أخرى تبينه وتشهد له ، فإن ما كان بينا في نفسه أولى بالقبول مما يحتاج في بيانه إلى غيره ، فقال{ ولقد أنزلنا إليك آيات بينات} وقد تقدم أن الوحي من الله للنبي يسمى تنزيلا وإنزالا ونزلا لبيان علو مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض .
قال هذا شيخنا:وعلو الله تعالى على خلقه حقيقة أثبتها لنفسه في كتابه ، لا حاجة إلى تأويلها بعلو مرتبة الربوبية على مرتبة المخلوقين هربا من استلزامها الحصر والتحيز في جهة واحدة ، فإن التنزيه القطعي يبطل اللزوم .ومسألة الجهات نسبية لا حقيقية ، وإذ كان الرب تعالى بائنا من خلقه وهو من ورائه محيط فهم أينما كانوا لا يتوجهون إليه إلا أنه فوقهم وإذا كان الملائكة{ يخافون ربهم من فوقهم} فماذا يقال فيمن دونهم ؟ وتوجه البشر إلى ربهم في جهة العلو وقبل السماء فطري معروف في جميع أهل الملل ، فهو فوق الخلق في جملته وفوق العباد أينما كانوا من أرض أو سماء ، وهنالك مقام الإطلاق الذي لا يقيد بقيد ولا يحصر في حيز ، وإنما الحيز والحصر من الأمور النسبية والاعتبارية في داخل دائرة الخلق ، وصح في الحديث أن الملائكة إذا سمعوا كلام الله في السموات عراهم ما عراهم مما أشير إليه في قوله تعالى{ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير} وشيخنا على دعوته إلى مذهب السلف كان لا يزال متأثرا بمذهب الأشعرية .
وأما كون آيات القرآن بينات فهي أنها بإعجازها البشر وبقرن المسائل الاعتقادية فيها ببراهينها ، والأحكام الأدبية والعملية بوجوه منافعها ، لا تحتاج إلى دليل آخر يدل على أنها هداية من الله تعالى وأنها جديرة بالإتباع ، بل هي دليل على نفسها عند صاحب الفطرة السليمة كالنور يظهر الأشياء وهو ظاهر بنفسه لا يحتاج إلى شيء آخر يظهره{ وما يكفر بها إلا الفاسقون} الذين خرجوا من نور الفطرة وانغمسوا في ظلمة التقليد فتركوا طلب الحق بذاته لاعتقادهم أن فطرتهم ناقصة لا استعداد فيها لإدراكه بذاته على شدة ظهوره ، وإنما يطلبونه من كلام مقلديهم – وكذا الذين ظهر لهم الحق فاستحبوا العمى على الهدى حسدا لمن ظهر الحق على يديه وعنادا له .