وربما يؤيد هذا قوله تعالى من بعد في الآية التالية:{ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون 68} ، فمضمون النهي عن عدم الالتفات إليهم ، والسير على منهاجه ، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:{ وادع إلى ربك} ، أي امض في طريقك داعيا إلى ربك العليم بكل عمل ، وبكل قول حقا أو افتراء ، وهذا النهي كقوله تعالى:{ ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك . . . 87} ( القصص ) ، ثم أكد سبحانه مضيه وعدم التفاته إليهم بقوله:{ إنك لعلى هدى مستقيم} ، أي وإنك في نسكك وشريعته لمستمكن من الهداية المستقيمة تمكين من يعلو على الهداية ، فالتعبير بقوله تعالى:{ لعلى هدى} أنك متمكن من هدايتك تمكن من كان فوق الهداية مستمكنا منها كالقائم عليها والجالس عليها ووصف سبحانه الهدى الذي استمكن منه صلى الله عليه وسلم واقتعده بالاستقامة ، والاستقامة وصف للحق ، ولكل هداية .
هذا هو الاحتمال الذي يكون النهي فيه موجها للنبي ، لأنه صلى الله عليه وسلم صاحب رسالة الله تعالى ، وحاملها ، وهو المخاطب بتكليفات الرسالة ، وليس المخالفون مخاطبين إلا عن طريقه .
وقد ذكر المفسرون احتمالا آخر ، ورجحه كثيرون ، وهو أن يكون النهي للمخالفين المعترضين ، ونراه بعيدا ، وإذا كان الله ينهاه عن المنازعة ، لأنه لا موضوع لها إذ لكل دين نسكه وشريعته ، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم عامة ناسخة ما يخالفها ، فقد نهاه أيضا عن الجدل معهم ، فقال عز من قائل:
{ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون 68} .
الجدل إحكام فتل الحبل ، وإحكام البناء ، والجدال في مسائل الحق والباطل إحكام كل مجادل قوله ليستطيع أن يزيف الحق أو أن يزيف كلام خصمه ، وإنه شاع في قول الباطل ، والمجادلة في الحق ، وهذا النوع من الجدال من شأنه أن يبعثر الحق ، ويشكك فيه ، وقد كان الإمام مالك رضي الله عنه ينهى عن الجدل في الحقائق ، وكان يقول:كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر الله تعالى ألا يجادل المشركين واليهود ، وأن يفوض أمورهم بعد أن تبين لهم الحق الذي يجب إتباعه ، ودلائله من آيات الله المتلوة والكونية ، وأمره أن يقول لهم:{ فقل الله أعلم بما تعملون} ، وهذا فيه تهديد لهم على عملهم ، مؤداه لا تحاولوا تبرئتكم في أعمالكم بالملاحاة والمجادلة ، فالله اعلم بعملكم .