وبعد موسى جاء أنبياء ينفذون أحكام التوراة التي كانت صادقة ، كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ، ثم جاء من بعدهم عيسى عليه السلام ، ولذا قال تعالى:
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ( 50 )} .
أي صيرنا ابن مريم وأمه آية ، أي معجزة خارقة للعادة ، وعرف عيسى بأنه ابن مريم لبيان أنه ليس له أب ، وأن مريم ولدته من غير أب ، وكان بذلك هو وأمه آية خارقة لمجرى العادات ، ذلك أن مجرى العادات في الأسباب والمسببات أن الولد يكون من نطفة توضع في رحم المرأة فيجيء الولد بإذن الله تعالى ، كما تبين في قوله تعالى:{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( 12 ) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ( 13 )} إلى آخر الآيات الكريمات ، فكانت المعجزة في أن عيسى جاء من غير أب ؛ وذلك لإثبات قدرة الله تعالى وإرادته ، وأنه مختار فعال لما يريد ، ذلك أن الفلسفة الأيونية التي ظهرت في آسيا الصغرى ، وتولدت منها الفلسفة اليونانية كانت تؤمن إيمانا عميقاولو كان باطلابأن الدنيا وجدت بالسببية ، أي بوجود المعلول عن علة ، حتى قالوا إن الكون كله وجد عن السبب الأول بالعلة ، وبولادة عيسى من غير أب تبين أن الله فاعل مختار ، رزاق ، وهو ذو القوة المتين ، وكان عيسى عليه السلام وأمه آية خارقة للعادة ، فأمهعليها السلامحملت من غير نطفة ، وهو ولد من غير أب ، فكانت المعجزة في كليهما ، ومكونة منهما .
ويقول تعالى:{ وَآوَيْنَاهُمَا} ، أي جعلنا مأواهما ربوة ، أي مكانا مرتفعا ، قد أوت إليه مريم عندما فاجأها المخاض إلى جذع النخلة ، حتى لا يراها الناس وقد قال تعالى في ذلك:{ فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ( 23 ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( 24 ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ( 25 ) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا ( 26 )} [ مريم] .
والربوة مع أنها مرتفع من الأرض{ ذات قرار ومعين} ، أي يمكن القرار فوقها ، لأنها مستوية ، فيها مهاد كالفراش ،{ ومعين} أي ماء طاهر ثرّ . وقال الزجاج:هو الماء الجاري ، وقال بعض الباحثين في اللغة يقال:معن الماء إذا جرى ، وهكذا اقترنت ولادة عيسى بمعجزات ، فكانت الربوة في المرتفع عن الأرض ، ذات قرار ممهد ، وفيها الماء الجاري ، وتكلم في المهد صبيا ، وكان هو في ذاته معجزة .