روى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:( إن الرجل يجد الرجل مع أهله وإن قتله قتلتموه ، وإن تكلم ضربتموه ، وإن سكت سكت على غيظ اللهم بين ){[1553]} ، فكانت هذه الآيات علاجا لذلك وشفاء لغيظه ، ورحمة بالناس ، وخاصة بالأسرة الإسلامية:لتقوم على الاطمئنان النفسي ، والثقة التي تكون بين ركنيها ، وهما الزوجان ، ولصيانتها عن القالة .
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} ، أي لم يكن شهداء غيرهم ولم يذكر عددا في الرمي ، للإشارة إلى ما ينبغي ، وهو ألا يعلم أحد بما يلاحظه على زوجه في هذه التهمة ، فأسرار الأسرة لا يصح أن تعلن على الملأ فلا يسأل:من شهودك الذين يشهدون بصحة قولك ، ولا يقدم هو تهمته ، فيعفيه حكم اللعان من تقديم شهادة أو المطالبة بأي شاهد .
وسميت العقوبة عقوبة اللعان ، لما اشتملت عليها بعض الأيمان بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، وكلمة{ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} الشهادة تطلق ، ويراد بها الحضور ، ولعل هذا هو المعنى الأصلي ، وتطلق ويراد بها الإقرار كقوله تعالى:{. . . وما شهدنا إلا بما علمنا . . . ( 81 )} [ يوسف] ، وتطلق ويراد بها الشهادة ، وكلمة أشهد بالله تتضمن معنى اليمين ، وقال بعض اللغويين:إن كلمة ( أشهد ) بذاتها من غير اقترانها بكلمة ( بالله ) تتضمن معنى اليمين .
وكلمة:{ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ} هي جمع شهيد أو شاهد ، الظاهر أنه ليس معهم شاهد يشهد إلا أنفسهم ، لأنه لم يحضر سواهم ، أو لم يتقدم للشهادة أحد سواهم ، وأنفسهم مستثنى مفرغ من ( شهداء ) ، أي لم يشهد في الرمي إلا أنفسهم ، وقد ذكر الله أربع شهادات{ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ، ونرى أن الشهادة قد اقترنت بالله فكانت الشهادة يمينا ، فيحلف أربع مرات متتالية{ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ، وقد أكد صدقه بيمينه بثلاثة مؤكدات:أولها ( إن ) التي تفيد التوكيد ، واللام المؤكدة دخلت عليه ، والثالثة وصفه بأنه من الصادقين ، أي من زمرة أهل الصدق ، وجماعتهم ، وهم المتقون الأبرار .
والشهادة الخامسة ، أي اليمين الخامسة يحلف بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، أي يحلف بأن الله تعالى ينزل عليه لعنته إن كان من الكاذبين ، فهو يوثق طلب إنزال لعنة الله به إن كان كاذبا ، وهذه الجملة أهي طلبية بمعنى أنه يطلب من الله أن ينزل اللعنة به ؟ الظاهر ذلك ، ولكن تحتمل أن تكون خبرية ، بمعنى أنه يحلف أنه يستحق لعنة الله تعالى إن كان من الكاذبين ، وذلك ظاهر من التعليق ، وإلى هذا نميل .
هذه أيمان الرجل ، انتهت بالحلف على استحقاقه اللعنة إن كان كاذبا ، أما المرأة فإنها تكون عرضة للعذاب ، وهو عقاب الزنى ، فإذا كان الرجل صادقا وأقرت بالزنى ، فالعقوبة هي العقوبة المقررة في آيات الزنى ، ولكنها لم تقر ، فقال تعالى:{ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( 8 ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9 )} .
ويدرأ معناها يميل عنها ، أو يدفع وتبرأ ساحتها ، أن تحلف أربع مرات بالله إنه لمن الكاذبين ، وقد تأكد إثباتها لكذبه بما تأكد لكذبه به إثباته لصدقه ، بأن واللام ، ودخوله في صفوف الكاذبين ، والخامسة حلفها باستحقاقها للعذاب بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، وكونها طلبية أو خبيرية ، وميلنا إلى أنها خبرية شرطية هو ما قلناه في شهادته الإيجابية المثبتة فيقال هنا في النفي ما قيل في الإثبات .
ولا بد هنا من الكلام في أمور:
الأمر الأول:أن نفي نسب الولد يعد من الرمي بشرط ألا يكون منه إقرار بالنسب ولو ضمنا ، فلو نفي بسبب الولادة إذا لم يوجد منه ما يدل على رضاه به ونسبته إليه ، ولو كان جنين في بطن أمه ، فإن النسب ينتفي ، ويجب اللعان ، وإلا حدّ حد القذف ، وإذا امتنعت هي عن اللعان سترة بالنفي حدّت حد الزنى المقرر في القرآن .
والأمر الثاني:أنه في الآية اشترط رؤية الرجل للزنى ، وإن اشتراطه قول من لا دليل عنده في هذا ، بل الدليل قائم على نفي هذا الشرط ، بدليل اللعان عند نفي نسب الولد ، وبالدليل جواز اللعان من الأعمى ، واشتراط علمه بالجس باليد ، كلام غير جدير بالالتفات .
الأمر الثالث:أن الشهادات في اللعان يمين فلا يشترط فيه إلا صلاحية العبادة باليمين ، بأن يكون بالغا عاقلا ، أم أنها شهادة وليست يمينا مجردة ، بل الشهادة جزء من أجزائها ، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة من أن يكون بالغا عاقلا مسلما حرا .
بالأول أخذ مالك والشافعي وأحمد ، ولذا لا يشترط في اللعان أن يكون المتلاعنان مسلمين حرين ، فلا يجوز اللعان بين الذميين ، ولا العبيد ، بل يكون التلاعن في الذميين ، وغيرهم ، وذلك القول يجعل الجماعة الإسلامية نزيهة عن قول الباطل ، وعن سماعه من الذميين ، والعبيد ، وهذا القول كما ترى مبني على أن هذه الشهادات أيمان خالصة .
والقول الآخر ، أنها شهادة فيها يمين ، وقد قال أبو حنيفة ، وقول عند الشافعي ، فلا لعان عند هؤلاء بين الذميين ولا بين العبيد ، ولا لعان إذا كان أحد الزوجين ذميا أو عبدا .
الأمر الرابع:أن الثقة دعامة العلاقة بين الزوجين ، فإذا عرض لها ما يزعزعها انفصمت العلاقة الزوجية وأصبح الزواج حراما وبينهما اللعان ويفرق بينهما ، وهي فرقة أبدية لا يحل له أن يتزوجها ، وتكون كحرمة المشركة والمشرك ، وعلى هذا جمهور الفقهاء .
وقال أبو حنيفة:إنها تحرم عليه إلى أن يكذب نفسه ، فإذا كذب نفسه حلت له ، وحدّ حد القذف ، فله أن يتزوجها من جديد وتقوم بينهما عشرة زوجية بعقد ومهر جديدين ، وإن هذا الرأي أرفق بالناس ، وفي هذا الموضع كلام فارجع إليه في كتاب الفقه{[1554]} . وإن اللعان فضل من الله تعالى على عباده ، وقبل أن نترك الكلام في طريقته نقول:إنه عبر عن اللعنة في جانب الرجال ، لأنه أقوى جلدا وإدراكا لمعنى الطرد ، ولا يؤثر فيهم الغضب بمقدار ما يؤثر الطرد الحسي ، لا مجرد الغضب النفسي ، وفي جانب النساء عبر بالغضب ، لأنه يؤثر في نفوسهن ، ومجرد الإعراض يؤثر في نفوسهن .