وقد استثنى العادل الحكيم الذين يتوبون في الدنيا ، فقال:
{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ( 70 ) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} .
هذا الاستثناء من العذاب السابق ذكره في الآية السابقة ، وقد ذكر سبحانه وتعالى ثلاثة أمور تخرج الشخص من دركة الكفر والطغيان إلى درجة الإحسان واستحقاق الثواب .
وأول هذه الأمورالتوبة ، وثانيهاالإيمان ، وثالثهاالعمل الصالح فقال:
{ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} .
أما أولها:وهي التوبة فهي أعلى درجات الاعتذار عن العمل السيئ ، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته:"التوبة ترك الذنب على أكمل وجوه الاعتذار ، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه ، إما أن يقول المعتذر:لم أفعل ، أو يقول:فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسأت وقد أقلعت ، ولا رابع لذلك ، وهذا الأخير هو التوبة ، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه ، والندم على ما فرط منه ، والعزيمة على ترك المعاودة ، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمن اجتمعت له هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة".
ولا شك أن من تكون له هذه الإنابة يغسل قلبه من أدران الشر ، ويرحض عنه كل ما كان من المآثم التي ارتكبها في حال غيه ، ولذلك يغفر الله ما قد سلف ، ويبتدئ التائب صفحة جديدة تحل محل صفحة السوء ، ويبدل مكان السيئات حسنات ، ويقول الله تعالى في ذلك:{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ . . . ( 38 )} [ الأنفال] .
هذا هو الأمر الأول ، وهو الأساس للأمرين الآخرين ، بل هو النور الهادي لهما ، أما الأمر الثاني:فهو الإيمان بأن ينتقل من دركة المعصية إلى درجة الوحدانية ، ومن دركة الكفر بمحمد والقرآن والعناد إلى درجة الإذعان للحق والإيمان به والجهاد في سبيله .
وأما الأمر الثالث ، فهو العمل الصالح ، وقد قال تعالى:{ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} وغن ذلك العمل يؤكد الإيمان ويوثقه ، لأن العمل ثمرة الإيمان ، أو هو جزء منه ، كما أن ثمرة العلم العمل ، والإيمان أعلى درجات العلم ، إذ هو علم وتصديق وإذعان وتسليم ، وقد أكد سبحانه وتعالى العلم فقال:{ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} وذلك بذكر المصدر تأكيدا لمعنى العمل ، وليكون ذلك العمل بعد الإيمان مقابلا للعمل الذي كان في جاهليتهم ، ولبيان أنهم يعملون عمل عباد الرحمن ، الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء هذه المثوبة الكاملة ، وذلك العمل الصالح ، والإيمان الكامل فقال:{ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} الفاء واقعة في جواب الشرط ، أو ما هو في معنى الشرط ، لأن الموصول في معنى الشرط ، وأولئك إشارة إلى الذين كانت فيهم هذه الأحوال من توبة وإيمان وعمل صالح ، والإشارة إلى الموصوف بصفات إشارة إلى هذه الصفات ، وإلى أنها سبب الحكم ، ولم تجد الحكم جزاء بالنعيم ، وسيجيء ذلك من بعد ، إنما الجزاء أن يبدل سيئاتهم حسنات ، والتبديل هو التغيير ، أي أنه سبحانه وتعالى يغير سيئاتهم ، ويضع محلها حسنات ، وإن ذلك بلا ريب واضح من التوبة ، ذلك أن التوبة كما قرنا ترحض النفوس ، وتزيل عنها أدرانها ، وتجعلها مجلوة مصقولة ، وصالحة لأن يحل محلها الطهر والنقاء ، والعمل الصالح المجدي ، ألم تر إلى عمر بن الخطاب الذي مكث يكابر ويغلظ في عناد ، ويشتد على المؤمنين بضع سنين بعد البعث المحمدي ، كيف تاب وآمن وعمل عملا صالحا ، ألا تراه قد زالت مآثمه من قلبه وأحل الله تعالى محلها عملا صالحا ، فحلت الأعمال الصالحة ذات الأثر البعيد في الإسلام محل ما كان منه في الجاهلية ، ولذا قال سبحانه{ فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فالتبديل على هذا هو تغيير ما كان في النفس من أدران السيئات ، وإحلال طيبات الأعمال والنيات محلها .
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} هاتان صفتان من صفات الله تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها ، ويرحم عباده بهذا الغفران ، وكذلك شأنه الأعلى ، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين .