وقد يقول قائل:لماذا لا ينفعهم في الآخرة ما كانوا ينفقون من مالهم في الدنيا ، وقد كان منهم جود وسخاء ؟ بين الله سبحانه مغبة ذلك الإنفاق وعاقبته ، فقال تعالت كلماته:
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر} وفي هذا التشبيه بين سبحانه ان هذا الإنفاق ليس خالصا من الضرر في ذاته ، فهو يحمل في ذاته ما يفسده ويجعله ضارا لا نفع فيه ، وشرا لا يمازجه خير ، فقد شبه سبحانه إنفاقهم في هذه الحياة من حيث اشتماله على الضار ، وعدم إثماره وإنتاجه ، بالريح التي لا ترسل لواقح ، ولا تكون نسيما عليلا تلقى في النفوس بالبشر والحبور ،ولا تكون ريحا يحمل للزرع عوامل النماء إذ يكون فيها غذاء ، بل يكون فيها ما يميت الزرع والضرع ، وهي الريح التي يكون فيها صر ، والصر معناه البرد الشديد المميت للنبات ، ومعنى اشتمالها على الصر وصفها به أب أنها ريح صر فهي ريح قارة باردة مهلكة مفنية وليست منمية مبقية ، وهنا يرد سؤال:لماذا ذكر الصر على انه في الريح وأنها مشتملة عليه ، وهي له ظرف وهو مظروف ؟ وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأنه ضرب من ضروب المبالغة ، وبان"صر"مصدر في أصله فجئ به على أصله ، كما تقول:ثوب فيه جمال ، والكلام بمعنى جميل ، وقد خرج تخريجات أخرى ليست واضحة .
ونحن نرى ان التعبير بقوله تعالى:{ فيها صر} يشير إلى ان الرياح فيها بطبيعتها رجاء ، ولكنها اشتملت على ما يذهب بخيرها ، وفي ذلك وصف من أوصاف من المشبه ؛ وذلك الإنفاق في ذاته قد يرجى منه النفع ، ويظن فيه ، ولكنه اشتمل في ذاته ما يذهب بخيره ، ولا ينبت إلا باطلا ، وذلك انه بمقاصده التي لا يقصد بها وجه الله ولا نفع الناس ،ولكن يقصد التفاخر والتباهي والتنافر ، والاستطالة على الناس بفضول القول ، يذهب كل خيره ، فالتعبير بقوله سبحانه:{ فيها صر} فيه إيماء إلى أن الأذى والضرر الذي لابس المشبه وهو الإنفاق لم يكن من ذاته ، ولكن من قلب المنفق ونيته ، وغايته من الإنفاق ، وإن هذا الإنفاق- كما قلنا وكما أشار النص القرآني الكريم- يحمل في ذاته موجب رده ، وقد بين سبحانه انه ضار مؤذ في الشطر الثاني من التشبيه ، إذ قال سبحانه في وصف الريح:{ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته} .
الحرث هو الزرع ، وأصل كلمة"حرث"فلح الأرض وإلقاء البذر فيها ،ثم أطلقت في مجاز مشهور على ما هو نتيجة ذلك وهو الزرع ، وقد أطلق على كل موضع يكون فيه إنتاج ولو لم يكن أرضا وزرعا ، كما قال تعالى:{ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم . . .223}[ البقرة] .
ومعنى التشبيه في جملته- كما دل على ذلك هذا النص الكريم والنص الذي سبقه-أن حال هذا الإنفاق الذي لم يقصد به وجه الله تعالى بل قصد به التفاخر وكسب الثناء وتحدث الناس بالعطاء ، كمثل الريح التي تكون باردة بردا شديدا يتوقع منها الناس الخير لزرعهم ، فتهلكه وتبيد خضراءه وتجعله حطاما ، والجامع في هذا التشبيه بين المشبه والمشبه به هو ان كليهما كان يرجى خيره ، ولكن بما لابسه من ضر وأذى صار مؤذيا .
وفي هذا التشبيه بيان أن الضرر لاحق بهم من هذا الإنفاق ؛ ولاحق بالناس ، لأنهم كانوا يعينون به على الشر ، إذ كانوا ينفقونه في محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء المؤمنين ؛وهو سبب في استعلائهم واستكبارهم ، ولو حرموا المال والإنفاق لكان خيرا لهم .
وفي النص القرآني إشارة إلى ان الله سبحانه وتعالى يعاقب بالريح من يظلمون انفسهم بارتكاب المعاصي ، فقال سبحانه:{ أصابت حرث قوم ظلموا انفسهم فأهلكته} ،فإن هذا النص السامي يومئ إلى أن الله تعالى يرسل في الدنيا عقابا على أموال الظالمين فيهلكها ، ولو اتخذوا الأسباب وما يجب اتخاذه من احتياط لحفظ الموال ، وإن ذلك التخريج لا يوجد ما يمنع من قبوله ، بل الإذعان له لأن تدبير العبد واحتياطه ، لا يمنع تقدير الرب وقضاءه ، وإن الريح كانت سببا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب ، فإن الله تعالى أرسل على المشركين ريحا ألقت الرعب في قلوبهم مع كمال العدة والعدد ، وقال تعالى في ذلك:{ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا25}[ الأحزاب] . ولقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور"{[559]} .
و إذا كان ذلك ثابتا فلماذا نستبعد أن يعاقب بعض الظالمين في الدنيا بإصابة حرثهم بريح ، لفساد نياتهم ، و لاستخدامهم المال في غير مواضعه ، و إن الذين يستبعدون ذلك يفرطون في الإيمان بالأسباب العملية ، و لا يذعنون للأحكام القدرية ، و إن الزرع بالذات ليس لأحد أن يدعي أنه يستطيع حمايته من الرياح و الآفات ، مهما يتخذ من الاحتياط ، فإن للأجواء أثرها ، و للآفات الوبائية حكمها ، و لا سبيل إلى التوقى الكامل منها .
وإذا كان الزرع وغيره مهما يتخذ من احتياط لحفظه لا يتقى الريح والآفات ، فإنه لا يصح ان يكون ذلك نتيجة للمصادفة ، فإن المصادفة بالنسبة لمداركنا ، اما بالنسبة لأعمال الله تعالى فإن كل شيء عنده بمقادير ، ومقصود بإرادته السرمدية ، وهو يكون ثوابا او عقابا او إملاء يملى الله به للظالمين حتى حين ، كما قال تعالى:{ وأملي لهم عن كيدي متين45}[ القلم] وقد قال تعالى:{ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال12 ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال13} [ الرعد] .
إذن فالأمر في الريح يصيب الله بها بعض الظالمين لظلمهم حق لا ريب فيه ، ولقد أخبر الله تعالى ان الظالم يسئ إلى نفسه دائما ، فقال:{ وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون} .
والضمير هنا يعود إلى الذين أصيب حرثهم بسبب ظلمهم ، أي ان الله تعالى ما ظلمهم بالريح تصيبهم ، إنما هم الذين ظلموا انفسهم بفساد قلوبهم ونيتهم ، واعتقادهم انهم يستطيعون التحكم في القدر ، وفي هذا إشارة إلى أولئك الذين أنفقوا في الإفساد للافتخار والخيلاء والاستكبار ، في ان الله ما ظلمهم بإبطال إنفاقهم ، إنما هم الذين ظلموا انفسهم بأن تجنبوا إنفاق المال في الحلال بنية الحلال ، بل أنفقوه في الحرام ، وما أنفقوه في حلال إلا بنية الحرام .
وجوز الزمخشري ان يعود الضمير إلى الذين ينفقون في هذه الحياة ، وهو ظاهر كل الظهور . ونضرع إلى الله ان يلهمنا الإنصاف في أقوالنا وأفعالنا ، وان يرزقنا صدق القول ، والإخلاص في إعمالنا له ، إنه سميع الدعاء .