{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون116 مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا انفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن انفسهم يظلمون117}
بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أعمال الكافرين ، أشار إلى مبعث جحودهم ، وهو اغترارهم بأموالهم وأولادهم ، واعتزازهم بما يملكون من حطام الدنيا وما فيها ، وقد أشار إلى هذه الموال وأولئك الولاد ببيان انها لن تغني عنهم من الله شيئا ، ولذا قال سبحانه:{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} .
يقال:أغناه عن هذا المر فلان أي كفاه ، ومن ذلك قوله تعالى:{ ما أغنى عني ماليه28 هلك عني سلطانيه29} [ الحاقة] وقوله تعالى:{ ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون207}]الشعراء] وقوله تعالى:{ لا تغن عني شفاعتهم شيئا . . .23}[ يس] وهي في كل هذا بمعنى لا يكفي عنه ، وهي هنا من هذا الاستعمال ، فمعنى قوله تعالى:{ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} لن تكفي عنهم بدل الله شيئا من الغناء ، فمن هنا هي التي تستعمل بمعنى بدل ، والغناء يتضمن هنا أمرين:أحدهما سد الحاجة ، والثاني دفع الأذى ، وإن الله سبحانه وتعالى قد قرر ان هؤلاء الكفار لن تدفع عنهم أموالهم أذى ، ولن تسد عنهم حاجة قط ، في وقت هم في أشد الحاجة إلى معونة ، وقرر ذلك بصيغة التأكيد ، وذلك بالتعبير ب"لن"تفيد تأكيد النفي .
وإن أولئك الكفار ما كانوا يعتزون إلا بالمال والولد ، فهذا قائلهم يقول:{ انا أكثر منك مالا واعز نفرا34}[ الكهف] . ولقد كانوا يربطون بين المال وكل المعاني السامية ، فكانوا يظنون ان كل الخير وكل الفضائل للأغنياء ، وكل الرذائل للفقراء ، فلا يتصور من الأغنياء إلا الخير ، ولا يتصور من الفقراء إلا الشر ، ولقد أخذ منهم العجب عندما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهو فقير ، فقد قال الله تعالى عنهم:{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم31 أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون32}[ الزخرف] وفي هذا بيان خطأ نظرهم ، فالغنى والفقر لا يتجاوز كل منهما انه قسمة الله تعالى للمعايش في هذه الحياة ، اما رفع الدرجات فأمر آخر ليس مرتبطا بالمال قلة أو كثرة ، ويشير إلى أن الرفعة تكون للفقراء ليسخر الأغنياء منهم ، فيزداد الأولون من الله قربا ، ويزداد الآخرون من الله بعدا .
وإن الله سبحانه إذ حكم بذلك ، وهو أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ، فقد أشار إلى ان السبب في ذلك كفرهم ؛ لأن التعبير بالموصول سببا لعدم غناء الأموال والأولاد ، مع ان طبيعة هذا الوجود تجعلها غير مغنية مؤمنا او كافرا ؟ والجواب عن ذلك ان المؤمنين لا يعتقدون ان أموالهم وأولادهم تغنى عنهم من الله شيئا ، فلم يكن ثمة حاجة للنفي بالنسبة لهم ، وفوق ذلك فإن المؤمنين يتخذون من الأموال والأولاد سبيلا لرفع منار الحق وعزته ، فهي تكفيهم بعض الكفاء ، وإن كانت لا تغنيهم عن الله تعالى ، ولأن كلمة"تغنى"في تكفيهم بعض الكفاء ، وغن كانت لا تغنيهم عن الله تعالى ، ولن كلمة"تغنى"في معناها دفع الأذى ، والله سبحانه وتعالى منزل الأذى بالكافرين عقابا لجرائمهم ولشرورهم ، وما تعرض المؤمن لهذا الأذى ، فلا حاجة لهذا الدفع .
وفي ذلك النص السامي بحث لفظي ، وهو تكرار النفي في قوله تعالى{ أموالهم ولا أولادهم} ف"لا"هنا تفيد ثلاثة أمور:أولها- مزيد تأكيد للنفي الثابت ب"لن". وثانيها( ان تكرار"لا"يفيد انهم كانوا يعتزون بالأموال والأولاد مجتمعين ويعتزون بأحدهما منفردا ، فنفى سبحانه وتعالى الغناء عنهما مجتمعين ومنفردين أيضا . وثالثها- ان المال يكون قوة في مواضع ، والولد يكون قوة في مواضع ، فتكرار النفي يستبين انه لا قوة تدفع مقت الله وغضبه لا من المال ولا من الولد .وقد بين سبحانه تبعد ذلك عذاب الله تعالى الواقع الذي ليس له من دافع ، ولا يغني فيه المال ولا الولد ، فقال تعالى:{ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}:
الإشارة هنا إلى الذين كفروا ، ليس لهم امام الله ولي ولا نصير ، ولا عون ولا دفاع ، فالله سبحانه وتعالى يحكم عليهم وهو خير الحاكمين بأنهم أصحاب النار الخالدون فيها . فمعنى المصاحبة هنا الملازمة الدائمة المستمرة ، و"لعل"في هذا التعبير إشارة إلى انهم بعد ان كانوا يصطحبون في الدنيا أموالهم مفاخرين بها وأولادهم مستنصرين بهم ،يصاحبون بدلهم في الآخرة نار الله الموقدة ، وعذابه الأليم ، وبعد ان تركوا نعيما غير مقيم استقبلهم شقاء دائم مستمر .
وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم العادل بعدة تأكيدات:منها التعبير بالإشارة المتضمن السلب من كل قوة كانوا يعتزون بها ، ومنها ذكر مصاحبتهم للنار ، ومنها بيان قصرهم على النار لا يتجاوزونها ، ومنها ذكر الضمير( هم ) فهو لتأكيد الحكم .