فالآيات تساق لمقاصد سامية منها إلقاء البشرى ، والتسلية والتعزية ، فقد بين الله سبحانه ان ما أصاب المسلمين في احد قد أصاب المشركين مثله ، وفي ذكر ذلك دعوة إلى تجديد الجهاد بقلوب مستبشرة ، ونفوس مطمئنة ، فقال تعالى:{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} .
القرح بفتح القاف:الجرح ، وبضمها:الألم الذي يترتب عليه ، وقال الكسائي والأخفش:اللغتان بمعنى واحد وهو الجرح وأثره ، وبهما قرئت الآية{[577]} ،ولقد جاء في المفردات للأصفهاني( القرح الأثر من الجراحة من شيء يصيبه من الخارج ، والقرح أثرها من الداخل ، كالبثرة ونحوها ) . فالقرح على هذا أثر الجراحات في الظاهر ، وبالضم أثرها في الباطن وإذا كان القرح هنا معنويا ، فيصح ان نقول:إنه بالفتح ما يعقب المعركة من ألم واضح للهزيمة ، وهو بالضم الغم والحزن الذي يستولي على النفوس حتى يكون النصر من جديد ، وغن الظاهر هنا ان الفتح أوضح ؛ لأن الله عبر عن أثره بأنه مس فقال:{ عن يمسسكم قرح} والمس إنما يتناول الظاهر فقط .
والقرح الذي أصاب المشركين هو يوم بدر ، وما أصاب المسلمين هو يوم احد ، وقد قرر الزمخشري انه يجوز ان يكون القرح الذي أصاب المشركين هو يوم احد ؛ لأن المشركين قتل منهم عدد ، فكان فيهم مقتلة كما في المسلمين فقد قال الله تعالى:{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم{[578]} بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في المر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون . . .152} [ آل عمران] .
ولكن الظاهر هو الأول ، ليتحقق معنى قوله تعالى في بيان سننه إذ قال{ وتلك الأيام نداولها بين الناس} .
هذه هي الفائدة الأولى التي تستفاد مما أصاب المسلمين يوم أحد ، وهذه الفائدة هي ان يروا سنة الله قائمة ، فلا نصر يدوم ، ولا هزيمة تدوم ؛ لأنه لو دام النصر لكان الغرور ، ومع الغرور الطغيان ، ووراء ذلك الترف ، وإذا أصاب الترف نفوس الشعوب ذهبت نخوتها وضؤلت قوتها كما توقع الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعرب عندما يتوالى انتصارهم( والله لتألمن من النوم على الصوف الأذربي( أي صوف أذربيجان ) كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان ){[579]} .
والمداولة معناها تبادل النصر ، وقد كان ذلك في اول الإسلام مرة واحدة لكيلا يأخذ الترف السابقين من المؤمنين ، وفسر الزمخشري مداولة الأيام بتبادل النصر وقال( المراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة .نداولها:نصرفها بين الناس نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ) ، وأصل كلمة نداول من الدولة ، وهو مصدر لدال يدول بمعنى انتقل من حال إلى حال ، أو من يد إلى يد ، ومن ذلك قوله تعالى:{ كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم . . .7}[ الحشر] ،أي يتداولون المال فيما بينهم ، ولا يصل إلى أيدي الفقراء منه شيء .
والمعنى الجملي:فعلنا ذلك إجراء لسنة من سنن الله التي خلت من قبلكم وهي مقررة في قوله تعالى:{ وتلك الأيام نداولها} ولذا عطف عليه قوله تعالى:{ وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء}:
هاتان فائدتان أخريان لما أصاب المسلمين يوم احد ، فأولاهما-تحقق علم الله تعالى وإظهاره المؤمنين الثابتين ، والذين ينافقون ، فمعنى علم الله تعالى هو تحقق ما قدره في الأزل ، فيعلمه الناس ، ويعلمه الله تعالى واقعا حاضرا ، ولقد ذكر الزمخشري في تفسير علم الله في هذا المقام انه على وجهين:أحدهما ان يراد تمييز قوي الإيمان من ضعيف الإيمان فيتميز الخبيث من الطيب ، ويكون هذا من قبيل التمثيل ، أي فعل الله تعالى ذلك فعل من يريد ان يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت ، والوجه الثاني-أن يكون علم الله الذي ثبت بالواقعة هو علم الجزاء أي يتحقق فيهم جزاء الله تعالى وفي الحق ان المؤدى في الأقوال كلها واحد وهو ان يظهر صادقو الإيمان وينكشف نفاق المنافقين ، ويعلن بذاك للناس علم الله تعالى المكنون .
والفائدة الأخرى في الآية هي اتخاذ شهداء- أي وقوع الشهادة في المؤمنين أي قتل المؤمنين الذين يشهد لهم بالجنة ويشهد لهم بالفداء ، وإن هذه فائدة ؛لأن هؤلاء يكونون مثلا عليا في الفداء يقتدي بهم غيرهم ، ويستهينون بالموت في سبيل إعلاء كلمة الحق ، وخفض كلمة الباطل ؛ ولأن هذا يجعل المجاهدين يعلمون ان إعلاء كلمة الحق ، وخفض كلمة الباطل ؛ ولأن هذا يجعل المجاهدين يعلمون ان الحرب مع نصر الله غير خالية من الشدائد والاستعداد لها ، والإصابة فيها .
{ والله لا يحب الظالمين} إذا كان من هؤلاء الذين تقدموا للقتال من كانوا من اهل الحق ، ومنهم من كان من اهل الدنيا ، وقد علم الله تعالى الفرقين ، فإنه لا شك ان الذين لم يثبتوا على القتال وقد دخلوا ، والمنافقين الذين ثبطوا الذين آمنوا حتى همت طائفتان منهم ان تفشلا-ظالمون ، وإذا كانوا ظالمين ، فمن نتائج المعركة ان يتميزوا وان يعلموا انهم ليسوا من اهل الله ؛ لأنهم فقدوا محبته ، وفي هذا إذا إن هذا كان سبب الهزيمة ، والله لا يحب الظالمين ، ولا يحب أفعالهم ، ولذلك قدر الهزيمة مع هذا الفعل ، فعلى القائد ان يختار جنده من الصفوة دون غيرهم ، وبهذا يكون ذلك النص فائدة رابعة .