/ت139
ثُمَّ تلتفت إليهم في أسلوب واقعي يريد للقضية أن تعيش في نطاق أسبابها الطبيعية التي أخضع اللّه لها كلّ ما في الظواهر الكونيّة والإنسانيّة ،فإنَّ قضية النصر والهزيمة في حياة الأفراد والجماعات لا ترتبط بالجانب الغيبيّ للحياة ليواجه الإنسان قضاياها من هذا الموقع ،فيدفعه ذلك إلى الشكّ في منطلقات الإيمان وخطواته ،بل ترتبط بالجانب الواقعي للأشياء ؛فإذا أخذ النَّاس بأسباب النصر فإنَّهم سينتصرون وإن كانوا كافرين ،وإذا تركوها انهزموا وإن كانوا مؤمنين ،لأنَّ اللّه لا يريد أن يُحارب بالنيابة عن المؤمنين ،بل يريدهم أن يأخذوا بسنته ،ويسيروا على حسب قوانينه ،فينطلقوا إلى ساحات الصراع من موقف الوعي للساحات ومتطلباتها المادية والمعنوية ...ولا مانع من اقتضاء حكمة اللّه أن يتدخل في الحالات الصعبة التي تمثِّل فيها الهزيمة حالة انهيار للإسلام وللمسلمينكما حدث ذلك في معركة بدرولكنَّها حالاتٌ طارئة لا تصل إلى مستوى القاعدة العامّة الثابتة .
وهكذا خاطب اللّه المسلمين بعد أن نهاهم عن الحزن والوهن ودعاهم إلى الشعور بالعلوّ في خطّ الإيمان ،ووضعهم في واجهة الصورة ؛وذلك في قوله تعالى: [ إن يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القومَ قرحٌ مثلُهُ] فإذا كان المسلمون قد انهزموا في المعركة في أحد وأصابهم القرح ،فقد أصاب الكافرين مثل ذلك في بدر ،فليست الهزيمة حالة ثابتة للمهزومين في بعض المعارك ،وليس النصر قانوناً حتمياً دائماً في حياة المنتصرين في حالات النصر ؛فقد ينتصر المهزوم في معركة جديدة ،وقد ينهزم المنتصر ،[ وتلك الأيام نُداولها بين النَّاس] فقد تكون القوّة لفريق من النَّاس في ما هيّأ اللّه لهم من أسباب القوّة ،وقد تتبدل الحال فتكون القوّة في الجانب الآخر والضعف في جانب الأقوياء ،تلك هي سنّة اللّه في الأرض التي تدفع الحياة إلى خطّ التوازن ،فلا ييأس المهزوم من النصر فيظلّ يُلاحق التجربة الحيّة التي تقود إليه ،ولا يطغى المنتصر بانتصاره ويستسلم لنتائجه ،بل يبقى في هاجس الهزيمة المرتقبة ،فيُحافظمن خلال ذلكعلى مواجهة المستقبل بروح متوازنة ...وفي ذلك كلّه تتجدّد الحياة وتنمو وتتكامل فُرَصها وتتوازن حركاتها ويتحرّك خطّ الصراع في اتجاه سليم .
أسلوب قرآني مميّز:
[ وليعلم اللّه الذين آمنوا] فإنَّ المواقف الصعبة التي يواجه فيها النَّاس الهزائم قد تزلزل النفوس وتدفع بعض المؤمنين إلى الريبة والشكّ والتراجع ،وتزيد المؤمنين الآخرين ثباتاً وقوّةً وتحفزاً وتصميماً على مواجهة التحدِّيات ،وبذلك ينكشف الإيمان المزيّف من الإيمان الخالص الصحيح الثابت ،فإنَّ حالات الرخاء والأمن والدعة تجمع في داخلها كلّ النماذج الخيّرة والشرّيرة ،لأنَّ الجوّ لا يفرض عملية الفرز الاجتماعي الإيماني ما دامت الفرصة تحتوي الجميع وتستوعبهم من دون سلبيّات .
وقد يوحي هذا التعبير بأنَّ التجربة تستهدف علم اللّه بالمؤمنين ،فهل يحتاج اللّه في علمه بالأشياء إلى وسيلة للعلم مما يحتاجه الإنسان في ذلك ؟!تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً .فما معنى ذلك إذاً ؟!الظاهر أنَّ هذا أسلوب قرآني مميّز يستعمل الأفعال المنسوبة إلى اللّه بالطريقة التي تنسب إلى الإنسان من أجل التأكيد على ارتباط النتيجة بالمقدّمات في طبيعة الأشياء ؛وإن اختلفت في طريقة نسبتها إلى اللّه الذي يعلم الأشياء قبل حصولها ،ونسبتها إلى الإنسان الذي يحتاج إلى الوسيلة التي تؤدّي إلى العلم ...
وهذا أسلوب جرى عليه القرآن في طريقة المحاكاة في الموارد التي لا يحمل فيها الفعل طبيعة المعنى الذي أطلق عليه ،كما في قوله تعالى: [ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم] ( البقرة:194 ) ؛مع أنَّ انتصار الإنسان لنفسه لا يعتبر اعتداءً ،ولكن المشاكلة لا تخلو من المناسبة التي تُعطي الفكرة بتناسب الفعل مع ردّ الفعل .وعلى ضوء ذلك يكون المقصود: ليظهر اللّه الذين آمنوا من خلال التجربة .فالقضية قضيّة تعبيريّة فنيّة ولا صلة لها بالمضمون ،فلا حاجة إلى ما ذكره صاحب مجمع البيان في تفسيره ،قال: « ...وإذا كان اللّه تعالى يعلمهم قبل إظهارهم الإيمان ،كما يعلمهم بعده ،فإنَّما يعلم قبل الإظهار أنَّهم سيميزون ،فإذا أظهروه علمهم متميّزين ،ويكون التغيّر حاصلاً في المعلوم لا في العالم ،كما أنَّ أحدنا يعلم الغد قبل مجيئه ،على معنى أنَّه سيجيء ،فإذا جاء علمه جائياً ،وعلمه يوماً لا غداً ،فإذا انقضى فإنَّما يعلمه الأمس لا يوماً ولا غداً ،ويكون التغيّر واقعاً في المعلوم لا في العالم » .
[ ويتَّخذ منكم شهداء] الظاهر أنَّ المراد منه جمع الشاهد ،لا جمع الشهيدكما ذكره صاحب تفسير الكشاف[ 13]وقد تكرر في القرآن الحديث عن أنَّ اللّه جعل هذه الأمّة في موضع الشهادة على النَّاس: [ وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطاً لتكونوا شهداء على النَّاس ويكون الرَّسول عليكم شهيداً] ( البقرة:143 ) ؛أمّا علاقة ذلك بالمعركةالتجربةالامتحان ،فهي تعميق الإيمان وتصفيته وتنميته في نفس الإنسان المؤمن ،ما يجعله في مستوى الشهادة التي تحتاج إلى عمق وصفاء وامتداد في الإيمان ...
وربَّما تنطلق التجربة الصعبة التي تتنوّع فيها المشاكل وتتكرر فيها الحلول وتشتدّ فيها المعاناة ،لتعملبأجمعهاعلى صنع الإنسان القيادي ،والمؤمن الصلب الواعي المتحدّي الفاعل ،لأنَّ مسألة القيادة ليست مسألة تتصل بالجانب الفكري للإنسانبل هيإلى جانب ذلكمسألة مرتبطة بالتجربة الحيّة التي تتحرّك في وعي الإنسان في ساحة المعاناة ومواقع الصراع ،وهذا واقع دور الشهادة الذي يطلّ بالإنسان على واقع الأمّة ليرصد كلّ حركتها الإيجابية أو السلبية في خطّ الاستقامة أو الانحراف من خلال وعيه الحركي للجانبين معاً ،ومعاناته في الإصرار على الموقف الحقّ في صراع الحقّ والباطل .
وفي ضوء هذا ،قد نجد معنى الشاهد في الشهادة أقرب من معنى الشهيد ،لا سيّما أنَّ اللّه قد حدّثنا في القرآن في أكثر من آية عن الشهداء على النَّاس ،من دون أن يتحدّث عن الشهيد بهذا التعبير في آية واحدة ،بل لم يعهد استعماله في القرآن ،وإنَّما هو من الألفاظ المستحدثة الإسلاميةكما يقول صاحب الميزانمع ملاحظة أخرى ،وهي أنَّ كلمة [ ويتَّخذ] لا تتناسب مع الشهداء بمعنى قتلى المعركة .فقد لا يكون من المألوف أن يُقال اتخذ اللّه فلاناً مقتولاً في سبيله أو شهيداً ،كما يُقال: اتخذ اللّه إبراهيم خليلاً ،أو اتخذ اللّه موسى كليماً ،ومحمَّداً شهيداً يشهد على أمّته يوم القيامة[ 14] ،لأنَّ التعبيرعلى الظاهريُناسب المعنى الذي يمنح صاحبه خصوصية له ،كالخليل والكليم والحبيب ،وهذا لا ينسجم مع المعنى المذكور ،واللّه العالم .
[ واللّه لا يُحبُّ الظَّالمين] الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف عن الحقّ والتراجع عن الطريق السويّ ،