مناسبة النزول:
جاء في مجمع البيان: «قيل: نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ،عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح .وقيل: لما انهزم المسلمون في الشعب ،وأقبل خالد بن الوليد بخيل من المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل ،فقال النبيّ ( ص ): اللّهمّ لا يعلُنَّ علينا ،اللّهمّ لا قوّة لنا إلاَّ بك ،اللّهمّ ليس يعبدك بهذه البلدة إلاَّ هؤلاء النفر ،فأنزل اللّه تعالى الآية ،وتاب نفرٌ رماة ،فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتّى هزموهم ،وعلا المسلمون الجبل ،فذلك قوله تعالى: [ وأنتم الأعلون] ،عن ابن عباس .وقيل: نزلت الآية بعد يوم أحد حين أمر رسول اللّه ( ص ) أصحابه بطلب القوم ،وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم ،وقال ( ص ): لا يخرج إلاَّ من شهد معنا بالأمس ،فاشتدّ ذلك على المسلمين ،فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ،عن الكلبي ،ودليله قوله تعالى: [ ولا تهنوا] في ابتغاء القوم ،الآية » .
وقال راشد بن سعد: لما انصرف رسول اللّه كئيباً حزيناً يوم أحد ،جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها مقتولين وهي تلدم .فقال رسول اللّه: أهكذا يفعل برسولك ؟فأنزل اللّه تعالى: [ إن يمسسكم قرحٌ] الآية .وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر ،خرجن يستخبرن ،فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير ،فقالت امرأة من الأنصار: مَنْ هذان ؟قالوا: فلان وفلان ،أخوها وزوجها ،أو زوجها وابنها ،فقالت: ما فعل رسول اللّه ؟قالوا: حيّ ،قالت: فلا أبالي ،يتخذ اللّه من عباده الشهداء .ونزل القرآن على ما قالت: [ ويتَّخذ منكم شهداءي] .
وقد أشرنا في أكثر من ملاحظة حول أسباب النزول ،أنَّها قد تكون اجتهاداً من رواتها ،كما أنَّ الغالب منها غير نقيّ السند ،وغير واضح الحجية ،ولعلّ هذه الرِّوايات من أمثال تلك ،لأنَّنا نتحفظ حول انفعال رسول اللّه( ص ) ،وهو العارف بسنن اللّه في قضايا الهزيمة والنصر ،وحكمة اللّه في ابتلاء المؤمنين ،ومدى المصلحة في ذلك لمجرّد سماعه امرأة تلدم ،ليقول مناجياً ربّه أهكذا يفعل برسولك ،وهكذا نلاحظ على نزول القرآن على ما قالت المرأة ،واللّه العالم .
وقفة نقد وتقويم:
وتعود السورة من جديد إلى معركة أحد في وقفة نقدٍ وتقويمٍ لمواقف المسلمين فيها ،فقد أدّت الهزيمة في هذه المعركة إلى حالةٍ شديدة في داخل الذات الإسلامية من الشعور بالوهن والضعف والحزن ،في تساؤل نفسي عنيف ،كيف حدث كلّ هذا ،ولماذا ؟...ويواجه القرآن هذا كلّه بالرفض لهذه الحالة في موقف المؤمنين: [ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون] ،لأنَّ الوهن والحزن يعبّران عن انسحاقٍ داخلي أمام الهزيمة ،في انطواءٍ روحيّ يسقط معه الشعور بالكرامة والإحساس بالعزّة .إنَّ اللّه يستثير في المؤمنين انطلاقة الإيمان ودلالاته في موقع المؤمن من الحياة ،فهو الأعلى بالمقياس الحقيقي للأشياء ،لأنَّ ارتباطه باللّه يُشعره بالقوّة العليا ،وانطلاقه من قاعدة الإيمان يوحي له بالفكرة العليا ،وتحرّكه في خدمة الحياة يشدّه إلى الأعلى في أهداف الحركة ...وبذلك يتحوّل الإيمان إلى عنصر قوّةٍ يدفعه إلى الاستعلاء على كلّ عوامل الضعف والخوف والحزن ،ليدعوه إلى الإحساس بالقوّة والفرح الروحي بالألم والتضحية في طريق الجهاد .
ولعلّ من الواضح أنَّ الآية الكريمة لا تريد أن توحي للمؤمنين بالموقع الأعلى في عمليّة استعلاء للذات على الآخرين لتصبّ في مجرى الأنانية الذاتية ،بل كلّ ما تريدهفي ما نستوحيه منهاهو الاستعلاء الروحي والرسالي على قوى الكفر والظلم والطغيان ،وذلك من خلال ما تُعطيه كلمة [ إن كنتم مؤمنين] من مفاهيم وأحاسيس وإيحاءات .