والثاني:انه سبحانه وتعالى عبر عن إرادته الأزلية بالإذن ؛ لأن الإذن هو الإعلان ، وقد علمت تلك الإرادة بهذا الأمر الذي وقع ، وقد كانت تلك المصيبة التي نزلت لها فوائد ؛ أولها:ضرورة الاستمساك بأسباب النصر ، وطلبه بأسبابه ، وقد أشرنا إلى ذلك ، وثانيها وثالثها:ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله:{ وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا} .
أي ليعلم الله سبحانه وتعالى وقوع ما قدره في علمه الأزلي ، فيعلم المؤمنين الثابتين الأقوياء الذين لا يبغون مادة ، بل يبغون إعلاء كلمة الله تعالى ، وجعلها هي العليا ، وكلمة الشرك هي السفلى ، وليعلم وقوع ما قدره في علمه الأزلي وهو ظهور المنافقين في هذه الشدة ، ولتقريب المعاني نقول:إن الله تعالى يعلم ما يقع في المستقبل علما أزليا كما قال سبحانه:{ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت . . . 34} [ لقمان] فإذا وقع ما قدره علمه سبحانه واقعا ، وما يتغير بذلك علم الله تعالى ، بل الذي يتغير هو المعلوم من انه سيقع إلى انه واقع ، وعلم الله واحد .
ويصح ان يقال:عن معنى علم الله تعالى في هذه الآية الكريمة وما يشبهها من آيات هو ظهور ما قدره سبحانه وتعالى بحيث يعلمه الناس ، وهو من قبل في علم الله المكنون ، ولوحه المحفوظ .
ومرمى النص الكريم ان تلك الشدة التي نزلت تميز بها الصادقون من اهل الإيمان من المنافقين الذين كانوا يبثون روح الهزيمة في أوساط المؤمنين كما قال تعالى:{ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب . . .179} [ آل عمران] لقد دخل المنافقون صفوف المؤمنين بعد غزوة بدر ، فكان لا بد ان يميزوا ويعرفوا ليتوقى المؤمنون شرهم ، ولا يكاد ذلك إلا بتجربة تعرك فيها النفوس ، وتلك التجربة كانت في غزوة احد ، فعلم امر اهل النفاق من بعدها ، حتى صاروا يعرفون بسيماهم وأقوالهم وأفعالهم ، وقد عبر الله سبحانه عن المنافقين بقوله:{ وليعلم الذين نافقوا} لبيان ان النفاق حدث جديد ، قد وجد في صفوف المؤمنين ، ولم يكن قبل بدر الكبرى ، فالقوة في بدر قد أوجدته ، والتجربة القاسية في أحد قد كشفته .
ولقد قال سبحانه وتعالى في مظاهر المنافقين ، وأوصافهم ، وأحوالهم ، وإعراضهم عن الجماعة في الشدة:
{ وقيل لهم تعالوا في سبيل الله او ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم} هذه الجملة السامية فيها بيان حال أولئك المنافقين ، وعدم مجاوبتهم نفسيا مع المؤمنين ، وقد أشار سبحانه بهذا إلى انهم كانوا معوقين{[613]} في ابتداء القتال ، قيل لهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الذين يعاشرونهم ويجاورونهم ، ومن أهليهم وعشيرتهم:تعالوا ، أي تساموا بأنفسكم وارتفعوا لتقاتلوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مبتغين مرضاته بالدفاع عن الحق ، فإن لم تسم نفوسكم إلى حد القتال طلبا لمرضاة الله ، فلتقاتلوا دفاعا عن الوطن والعشيرة ، فالمعنى:قاتلوا لرضا الله ، او ادفعوا عن أنفسكم عار الذل وعار سيطرة قريش عليكم عن لم تقاتلوا ، وقيل عن معنى ادفعوا ان يكثروا سواد المسلمين ، فيلقى ذلك الرعب في قلوب العداء فيعرفوهم بهذا التكثير ، وعن سهل بن سعد الساعدي وقد كف بصره قال:لو أمكنني لبعث داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين ، فكنت بينهم وبين عدوهم ، قيل:كيف وقد كف بصرك ؟ قال:لقوله تعالى:{ أو ادفعوا} وعبر بالمجهول في قوله تعالى:{ وقيل لهم تعالوا} للإشارة إلى كثرة القائلين فقيل لهم من النبي ، ومن الأصحاب ، ومن أهلهم وعشيرتهم المؤمنين ، ولكنهم امتنعوا لامتلاء قلوبهم بالنفاق .{ قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم} .
و ظاهر المعنى انهم يوهمون دعاتهم للخروج معهم انهم لا يعتقدون ان قتالا يقع ، وان الأمر ينتهي بغير قتال ، ولكن الزمخشري فسر بغير هذا الظاهر ، فقرر ان معنى أننا لو نعلم أنكم تخرجون لقتال رتبت أسبابه واخذ فيه بالاحتياط ، ولكنه زلل ، وإلقاء بالتهلكة ، وكان خيرا ان تبقوا بالمدينة ، حتى يجئ العدو إليكم ، وكأنهم بهذا يرجحون الرأي الأول ، وهو البقاء في المدينة ، ولو بقوا في المدينة لوجدوا معهم ، ولكنهم قبل ان يصلوا إلى احد رجعوا فرجع كبيرهم عبد الله بن ابي بن سلول في ثلاثمائة ممن على شاكلته ليخذلوا المؤمنين .
{ وهم للكفر يومئذ اقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} تضمن ذلك النص حكما على أعمال المنافقين ، وبيانا لحقيقتهم ، فأما الحكم فهو انهم في هذا اليوم المشهود الجليل الذي ميزهم وعرف بهم- كانوا أقرب إلى الكفر من الإيمان ، وأما الوصف فهو انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم مغررين مظهرين الإيمان ، وكاتمين الكفر ، ويذكرون لبث روح الهزيمة بين المؤمنين أمورا يعرفون كذبها ، وينشرون أراجيف يعلمون بطلانها .
والحكم الذي حكم الله به عليهم ، وهو انهم في هذا اليوم ، أقرب للكفر منهم للإيمان ، ظهرت بوادره فقد كانوا يتمنون نصر المشركين ويعملون لبث روح الهزيمة في صفوف المسلمين ، فهم بلا شك كانوا أقرب للكافرين منهم للمؤمنين بإرادة نصر الأولين ، وهزيمة الآخرين ، مع انهم عشراؤهم وخلطاؤهم ، ومنهم من تربطه ببعض المؤمنين قرابة قريبة فمنهم من كان ابا لبعض المؤمنين او أخا ، ولكن نفاقهم جعلهم ينسون تلك الوشائج من القربى ، فكانوا يقطعون ما امر الله به ان يوصل .فالمراد ب "الكفر"أهله ، وكما في قوله تعالى:{ فليدع ناديه17} [ العلق] ، ويصح ان يقال:إن المراد من قربهم إلى الكفر هو بالنسبة لأقوالهم وأفعالهم ، فأفعالهم وأقوالهم في يوم أحد كانت تدل بظواهرها على قربهم إلى الكفر وبعدهم عن الإيمان ، وإن كانت لا تدل على كل حقيقتهم ؛ وذلك لأن تلك الحوادث قد كشفتهم ، وبينت قربهم من الكفر ؛ إذ حرصهم على ألا يظهروا بحقيقتهم جعلهم لا يعلنون كل أمرهم ، ولكن الجزء الذي ظهر ، وإن لم يكن الكل ، دل على حقيقة النفاق الذي يسكن قلوبهم ، وكان مظهرهم به أقرب إلى الكفر ، وأما الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به وهو انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، فتلك طبيعة النفاق دائما فهو ستر للباطن ، وإعلان ما يناقضه ، وقد أظهروا انهم يريدون مصلحة المسلمين ، وهم يريدون خذلانهم واظهروا انهم يقولون الحق عندما كانوا يثبطون المؤمنين ، وهم لا ينطقون بالحق ، ولا يريدونه .
ثم ختم الله سبحانه النص الكريم بقوله:{ والله اعلم بما يكتمون} .
أي أنهم يخادعون المؤمنين ، ويبدون ما لا يخفون ، ويحسبون انهم يخادعون الله والذين آمنوا ، وما يخدعون إلا انفسهم وما يشعرون ، فالله سبحانه وتعالى عليم بالسرائر وما يبيتونه للمؤمنين ، وقد كشف الله تعالى بعض شئونهم ، ليحترس المؤمنون منهم ، ولكيلا ينخدعوا بهم ، ولكي يتجنبوهم في الشدائد حتى لا يحدث لهم بسببهم محنة ، وإن أولئك قد كتموا الرغبة الشديدة في الكيد للنبي وأصحابه ، وأنهم كلما ثار حقدهم على النبي صلى الله عليه وسلم ازداد كيدهم ، وما كان يثير حقدهم إلا نصر يؤيد الله تعالى به نبيه ، وقد كتموا موالاتهم لأعداء الإسلام من اليهود وغيرهم ، وإن أولئك المنافقين لا يكتفون بتخذيلهم والمعركة قد ابتدأت ، بل يظهرون الشماتة بعد ان وقعت ، لكي يثبطوا المؤمنين عما يكون من قتال من بعد ،