( وليعلم الذين نافقوا ) ليبين في هذه الآية وما بعدها حال المنافقين مع المؤمنين كما بين من قبل حال الكافرين معهم ، والذين نافقوا هم الذين أظهروا الإيمان وتبطنوا الكفر ، قال ابن الأنباري:إنه مأخوذ من النفق وهو السرب فهم يتسترون بالإسلام كما يتستر الرجل في السرب ، وقال غيره إنه مشتق من النافقاء وهو حجر اليربوع أو أحد بابيه ، قال أبو عبيده إنه يجعل لحجره بابين أحدهما القاصعاء والآخر النافقاء ، فإذا طلب من أحدهما خرج من الآخر ، وهكذا شأن المنافق يظهر للمؤمنين من باب الإيمان وللكافرين من باب الكفر فإذا أصابته مشقة من أحدهما لجأ إلى الآخر .
وقال غيره:إن النافقاء حجر اليبروع يحفره في الأرض ويرققه من أعلاه فإذا رابه شيء فخاف على نفسه دفع التراب برأسه وخرج ، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فإذا فتشه رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام .وكذا وجهه الرازي ولك أن تقول لأنه يلجأ للإسلام ويحتمي به فإذا رابه منه شيء خرج منه إلى الكفر .وقول أبي عبيدة أظهر هذه الأقوال .وسيأتي من أوصافهم ما يظهر به وجه التسمية كقوله تعالى:( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ! ! ) [ النساء:141] .
والمعنى وليعلم حال الذين نافقوا ، أيْ وقع منهم النفاق في هذه الواقعة ولم يقل المنافقين كما قال المؤمنين لأن النفاق لم يكن صفة ثابتة لهم كثبوت إيمان المؤمنين ، فإن منهم من تاب بعد ذلك وصدق في إيمانه .أي ليظهر علمه بذلك فيترتب عليه مقتضاه من العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما وتوقيا للمكروه واحتياطا في الأمر كالعبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وسوءا وكرهوا حصوله .
أما قوله تعالى:( وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ) فمعناه أن هؤلاء الذين نافقوا قد دعوا إلى القتال على أنه في سبيل الله أي دفاع عن الحق والدين وأهله ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه لا للحمية والهوى ولا ابتغاء الكسب والغنيمة ، أو على أنه دفاع عن أنفسهم وأهلهم ووطنهم فراوغوا وحاولوا ، وقعدوا وتكاسلوا ( قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) أي لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم لاتبعناكم ولكننا نرى أن الأمر ينتهي بغير قتال ، نزل ذلك في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاث مئة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الفشل وقد تقدم ذكر ذلك في مجمل القصة عند الشروع في تفسير الآيات الواردة فيها .
قال تعالى:( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) أي أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان يوم قالوا ذلك القول لظهور صفته فيهم وانطباق آيته عليهم .فإن القعود عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الوطن والأمة عند هجوم الأعداء من الفرائض التي لا يتعمد المؤمن تركها كما يعلم من الآيات الكثيرة في هذا السياق وغيره ومنها ما هو صريح في جعله من الصفات التي حصر الإيمان في المتصفين بها كقوله عز وجل:( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [ الحجرات:15] .
قال الأستاذ الإمام:ليس قوله"يومئذ "للاحتراس بل لرفع شأن هذا اليوم الذي حصل فيه التمييز بين الفريقين وقال إنهم أقرب إلى الكفر ولم يقل إنهم كفار مع علمه بحالهم تأديبا لهم ومنعا للتهجم على التكفير بالعلامات والقرائن .أقول:يعني أن هذا الذي صدر منهم وإن كان من شأنه ألا يصدر إلا من الكافرين لا يعد بحد ذاته كفرا صريحا في حكم الظاهر لاحتمال العذر والتأويل ، ولو سجل عليهم به ظاهرا لوجب أن يعاملوا معاملة الكفار ، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم بعد ذلك معاملة المؤمنين حتى أنه صلى على جنازة رئيسهم عبد الله بن أبي بعد بضع سنين من واقعة أحد ، وحينئذ فضحهم الله تعالى في سورة التوبة بعد ما كان من ظهور كفرهم ونفاقهم في غزوة تبوك وأنزل عليه ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله ) [ التوبة:84] فحاصل معنى عبارة الأستاذ الإمام أنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر وأن امتناعهم عن الجهاد عمل من أعمال الكفر ولكنه لم يصرح به في الآية بل صرح بما يومئ إليه تأديبا عسى أن يتوب منهم من لم يتمكن الكفر في قلبه ومنعا للناس من الهجوم على التكفير .فليعتبر بهذا متفقهة زماننا الذين يسارعون في تكفير من يخالف شيئا من تقاليدهم وعاداتهم وإن كان من أهل البصيرة في دينه وإيمانه والتقوى في عمله ولم يكونوا على شيء من ذلك .
وقوله تعالى:( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) جملة مستأنفة مبينة لحالهم في مثل قولهم هذا أي إن الكذب دأبهم وعادتهم يصدر عنهم على الدوام والاستمرار ليستروا بذلك ما يضمرون ، ويؤيدوا به ما يظهرون ، وهل يكون نفاق بغير كذب ؟ وفي تقييد القول بالأفواه توضيح لنفاقهم بمخالفة ظاهرهم لباطنهم وفي التنزيل آيات أخرى في بيان حالهم هذه .قال ( والله أعلم بما يكتمون ) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم فهو يبين في كل حين من مخبآت سرائرهم ما تقتضيه الحال وتقوم به المصلحة ثم هو الذي يعاقبهم به في الدنيا والآخرة .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى:( وقيل لهم تعالوا قاتلوا ) فيه وجهان أحدهما أنه عطف على"نافقوا "وهو الظاهر المتبادر ، والثاني أنه استئناف وقوله قبله ( وليعلم الذين نافقوا ) قد تم به الكلام السابق .قالوا فالواو في قوله:( وقيل لهم ) هي التي يسمونها واو الاستئناف على هذا القول .وقد قال الأستاذ الإمام في هذه الواو ما حاصله:وقد خلط بعضهم في الكلام عن هذه الواو لعدم فهم المراد منها وليس هو بمعنى الاستئناف المشهور وإنما تأتي لوصل كلام بكلام آخر مباين للأول تمام المباينة من جهة ذاته ، ومرتبط به من جهة السياق والغرض ، ففي مثل هذه الحال إذا فصل الثاني من الأول يكون في الفصل البحت وحْشةٌ على السمع وإيهام للذهن أن الغرض الذي سبق له الكلام قد انتهى فيجيء المتكلم بالواو ليستمر الأنس بالكلام في الغرض الواحد ويظل الذهن منتظرا لغاية الفائدة والغرض منه فكأن المتكلم عند نطقه بالجملة المستأنفة بالواو للانتقال من جزء من كلامه قد تم إلى جزء آخر يراد به مثل ما يراد مما قبله ، يقول:هذا جزء من الكلام يثبت غرضي ويبين مرادي وثم جزء آخر منه وهو كذا .وهذا الشرح مبني على كون الجملة المستأنفة لا اشتراك بينها وبين ما قبلها بوجه ما وإنما يقرنها بها السياق والغرض ، وفيها رأي آخر وهو أنها عطف على معنى خفي فيما قبلها غير مذكور ولا معين وإنما ينتزع من الكلام انتزاعا ، فلما كان كذلك لم يقولوا إن الواو فيها عاطفة إذ لا معطوف عليه في الكلام وقالوا للاستئناف مراعاة لصورة اللفظ .
ومنها أن اللام في قوله"للكفر "و"للإيمان "متعلقة"بأقرب "على أنها بمعنى"إلى "فإن المستعمل في صلة القرب حرفا"إلى "و"من "يقال قرب منه وقرب إليه .وقال بعضهم:إنه يتعدى باللام أيضا .