ثم ذكر المنافقين قولا آخر قالوه بعد القتال- وإنما كان القول السابق قبل القتال اعتذارا عن القعود والتخلف- فقال:( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ) أي هم الذين قالوا لإخوانهم ، أو هو بدل من قوله"الذين نافقوا "أو نعت له .أي قالوا لأجل إخوانهم الذين قتلوا في أحد وفي شأنهم والحال أنهم هم قد قعدوا عن القتال:لو أطاعونا في القعود عن القتال فلم يخرجوا كما أننا لم نخرج لما قتلوا كما أننا نحن لم نقتل إذ لم نخرج .
قال الأستاذ الإمام:هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين جاء في سياق التقريع المتقدم .وقدم القول فيه على القعود عن القتال لأنه أقبح منه ، فإن القعود ربما كان لعذر أو التمس الناس له عذرا واللوم فيه على فاعله وحده لأن إثمه لا يتعداه إلى غيره .وأما هذا القول الخبيث فإنه أدل على فساد السريرة وضعف العقل والدين ، وضرره يتعدى لما فيه من تثبيط همم المجاهدين ، أقول:ويدل على إصرارهم ما اجترموه من التثبيط والنهي حين انفصل ابن أبي بأصحابه من العسكر مؤيدين ذلك بالاحتجاج على أنهم فعلوا الصواب وقد دحض الله تعالى حجتهم بقوله لنبيه ( قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) قال الأستاذ الإمام أي أن هذا القول في حكمه الجازم يتضمن أن علمهم قد أحاط بأسباب الموت في هذه الواقعة ، وإذا جاز هذا فيها جاز في غيرها ، وحينئذ يمكنهم درء الموت أي دفعه عن أنفسهم ولذلك طالبهم به وجعله حجة عليهم .وقد يقال:إن فرقا بين التوقي من القتل بالبعد عن أسبابه وبين دفع الموت بالمرة ، فالموت حتم عند انتهاء الأجل المحدود وإن طال والقتل ليس كذلك فكيف احتج عليهم بطلب درء الموت عن أنفسهم ؟
قال:وهذا اعتراض يجيء من وقوف النظر فكل يعلم ولا سيما من حارب أنه ما كل من حارب يقتل فقد عرف بالتجربة أن كثيرين يصابون بالرصاص في أثناء القتال ولا يموتون وأن كثيرين يخرجون من المعمعة سالمين ولا يلبثون بعدها أن يموتوا حتف أنوفهم كما يموت كثير من القاعدين عن القتال .فما كل مقاتل يموت ، ولا كل قاعد يسلم ، وإذا لم يكن أحد الأمرين حتما سقط قولهم وظهر بطلانه .وأقول:إنه ذكر في المسألة كلاما آخر لم أكتبه في وقته ولم أفرغ له بعده حتى نسيته .وكل من سمع كلام من لاقوا الحروب يعجب من كثرة الوقائع التي يسلم فيها المخاطرون ويهلك الحذرون .