هذه بشارة الله بطريق ملائكته لمريم البتول ،وقد بين الله تعالى ان هذه البشارة أثارت عجبها واستغرابها:{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر}:
هذه الجملة السامية تدل على بالغ عجبها ،وتومئ إلى ارتياعها الذي عبرت عنه كما في سورة مريم:{ ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا23}[ مريم] .صدرت إجابتها بالنداء للرب ،وفيه معنى الاعتراف بالخلق والتكوين ،وكمال الربوبية لله سبحانه وتعالى ،فهو تسليم بالقدرة الإلهية ،وبأن خالق كل شئ لا يكبر عليه شئ ،سبحانه وتعالى .
و{ أنى}في قوله تعالى:{ أنى يكون لي ولد}هي بمعنى كيف ،أي كيف يكون منى ولد ولم يمسسني بشر أي لم يكن مني ما يكون بين الرجل والمرأة مما يكون منه ولد .فالاستغراب في الكيفية ،لا في أصل القدرة الإلهية .وكلمة{ لم يمسسني}إما ان نعتبرها كناية عن اختلاط الرجل بالمرأة ،وهذا ظاهر ،وتعبير القرآن عن اتصال الرجل بالمسيس مجاز مشهور معروف ،حتى يكاد يكون حقيقة عرفية في لغة القرآن الكريم ؛أو نقول:المس المراد به حقيقته ،وهو انها لم يلمسها رجل ؛لأنها متبتلة دائما منصرفة للعبادة لم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط ؛وبذلك ينتفي بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس ،فموضع العجب والسؤال هو ان يكون ولد من غير اتصال رجل بامرأة . ولقد أزال عجبا رب البرية بقوله تعالى:
{ قال كذلك الله يخلق ما يشاء}أي كهذا الخلق الذي تجدينه في ان يكون لك ولد من غير ان يمسك رجل وهو إبداع ،يخلق الله تعالى ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه ،وكلمة يخلق غير ينشئ ؛لأن الخلق إنشاء على غير مثال سبق ،فالتعبير ب"يخلق"يفيد الإبداع ،وانه منهاج في التكوين يخالف منهاج غيره في التكوين .وهذه الجملة السامية تفيد أمورا ثلاثة:
أولها:ان هذا النوع من التكوين ،وهو إنجاب من غير أب هو في قدرة الله تعالى ؛لأنه الخالق المبدع ،وما هو غريب عليكم هو في قدرته سبحانه ؛لأن من خلق الخلق وخلق السنن الكونية وغيرها قادر تغييرها ؛لأنه مبدعها ومنشئها .
ثانيها:ان خلق عيسى امر من امر الله تعالى ،وعيسى ليس إلا مخلوقا من مخلوقاته ،فهو أبدعه كما أبدع غيره من المخلوقات ،فليس إلها ولا ابن إله .
ثالثها:ان خلق الله تعالى بمشيئته وإرادته ،وهذا فيه إشارة إلى السبب الذي من اجله خلقه الله تعالى من غير أب وهو ان المخلوقات لا تصدر عن الله صدور المعلول عن علته ،ولكنها توجد بإيجاده وتنشأ بإبداعه:{ بديع السموات والأرض انى يكون له ولد}وفي ذلك رد عملي على اهل الفلسفة المادية التي تقول إن العالم نشأ عن العقل الأول نشوء المعلول عن علته .
ثم أشار سبحانه على عظيم قدرته بقوله تعالى:
{ إذا قضى امرا فإنما يقول له كن فيكون}أي ان الله سبحانه وتعالى إذا أراد ان يوجد امرا لا يوجده إلا بكلمة"كن"وعبر سبحانه عن الإيجاد ب"قضى"للإشارة إلى ان إيجاده للأشياء ليس إلا من قبيل الحكم عليها بالوجود ،فإذا حكم بالوجود في امر نفذ حكمه ،وحكمه هو ان يقول كن ، فيترتب على ذلك أن يكون .
وهل الأشياء حقيقة تنشأ بمجرد الإرادة الإلهية ،ام ان هذا تصوير لسهولة الخلق ؟الظاهر ان هذا بيان لسهولة ذلك على خالق الخلق ،وبارئ النسم ؛فهو تمثيل لبيان قدرة الله تعالى الشاملة ،وسهولة الإنشاء عليه سبحانه ،ونفاذ إرادته في خلقه ،ولذلك جاءت الإجابة في مثل هذا المقام بهذا المعنى في سورة مريم فقد قال تعالى في الإجابة عن استغرابها في تلك السورة:{ قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا21}[ مريم] .فهذا التعبير الكريم صريح في ان السياق لبيان سهولة مثل هذا الخلق على خالق الخلق ،ويفيد أيضا ان المقصود بيان ان الله سبحانه فعال لما يريد ،وهو على كل شئ قدير .ربنا لا ترهقنا من أمرنا عسرا .