وتقف العذراء( ع ) للتساؤل ،بعد أن عاشت غيبوبةً روحيّةً لذيذةً خاشعةً مع هذه البشارة الكبيرة ومعناها .وكيف يكون لها ولد ؛وهي بعد لما تتزوّج ولم يمسّها بشرٌ لتتحقّق من خلال ذلك الوسيلة الطبيعية لولادة هذا المولود العجيب ؟[ قالت ربِّ أنَّى يكونُ لي ولدٌ ولم يمسَسني بشرٌ] في مناجاةٍ تشبه الاستغاثة وتتوسّل في جلاء غموض هذا السرّ .ويأتيها الجواب من اللّه: [ كذلك اللّه يخلُقُ ما يشاء] فليست هناك حدود للوسائل التي تُحقّق الوجود ،لأنَّ مشيئته هي كلّ شيء في الخلق ،فإذا أراد الشيء وُجِدَ ،فليس هناك إلاَّ مشيئته فهي سرّ الوجود وسرّ الحياة [ إذا قضى أمراً فإنَّما يقول له كُن فيكون] .وترجع إلى إيمانها في هدوء واستسلام ،ولكنَّها تظلّ في جوّ الأسرار الذي يحيط بها من كلّ جانب ،فهي تؤمن أنَّ القضية كلّ القضية هي مشيئة اللّه ،ولكنَّها لم تعرفحتّى الآنكيف تتحرّك المشيئة في ولادة هذا المولود العجيب .
إشكالات وملاحظات:
وهنا ملاحظة ،وهي أنَّ الآية تحدّثت عن امتداد عمر عيسى ( ع ) إلى مرحلة الكهولة ،ولكن الأناجيل تصرّح أنَّه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث وثلاثين سنة ،وقد حاول البعض أن يتحدّث عن بلوغه السنّ المذكورة بعد نزوله من السَّماء ،ويتحدّث بعضٌ آخر عن أنَّ عيسى ( ع ) بلغ أربعاً وستين سنة خلافاً للأناجيل .
وربَّما أوّل بعض المفسِّرين الآية بأنَّ المراد بها هو أنَّ عيسى ( ع ) يكلّم النّاس في المهد بالطريقة التي يكلّمهم فيها كهلاً ،لأنَّ قضية تكليمه للنّاس في المهدوهي مرحلة السنة الثانيةليس أمراً عجيباً ،لأنَّ أغلب الأطفال يتكلّمون بطريقة طفولية معينة ،ولكن العجيب أن يكلّمهم كلاماً تاماً يعتني به العقلاء من النّاس كما يعتنون بكلام الكهل ،فهذا هو الخارق للعادة .
وقد يُلاحظ على ذلك بأنَّ عيسى ( ع ) تكلّم بكلامٍ مفيد بالطريقة العقلانية شكلاً ومضموناً في أوّل ولادته ،وذلك هو قوله تعالى في سورة مريم: [ فأتت به قومها تحملُهُ قالوا يا مريم لقد جئتِ شيئاً فرياً * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمُّك بغياً* فأشارت إليه قالوا كيف نُكلِّم من كان في المهد صبياً] ( مريم:2729 ) .
وهناك ملاحظة أخرى ،وهي أنَّه قد يُقال: إنَّ اللّه عبّر بكلمة «يخلق » هنا ،بينما جاء التعبير في قصة زكريا بقوله: [ كذلك اللّه يفعل ما يشاء] ،فما هو وجه الاختلاف ؟
وقد يُجاب بأنَّ حالة زكريا ليست حالةً غير طبيعية في علاقة المسبب بالسبب ،لأنَّ الولادةعلى تقديرهاتحصل بالطريقة الطبيعية للتناسل ،لكن هنا مانعاً يمنع من فعليتها وهو الشيخوخة والعقم ،أمّا حالة مريم فإنَّها تخالف طبيعة القانون العام لولادة الإنسان لأنَّها بلا زوج ،ما يجعل القضية لديها قضية «خلق » ،بينما هي في قضية زكريا قضية «فعل » من خلال رفع المانع ،ولكنَّ في هذه الملاحظة تأمّلاً ،لأنَّ مسألة الخلق صادقة على وجود الإنسان ،سواء كان ذلك بالطريقة الطبيعية في القانون العام أو بالطريقة الخارقة للعادة ،فقد عبّر اللّه عن خلق آدم ( ع ) وعيسى ( ع ) كما عبّر به عن خلق الإنسان بالطريقة العادية ،وذلك هو قوله تعالى: [ إنَّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثُمَّ قال له كن فيكون] ( آل عمران:59 ) .