{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} ؟ أي كيف يكون لي ولد والحال أنني لم أتزوج فالمس كناية ظاهرة والاستفهام على حقيقته في وجه .ومعناه هل يكون ذلك بزواج يطرأ أم بمحض القدرة ؟ وفي وجه آخر:للتعجب من قدرة الله والاستعظام لشأنه{ قال كذلك الله يخلق ما يشاء} أي كمثل هذا الخلق البديع يخلق الله ما يشاء ، فإن من شأنه الاختراع والإبداع ، أقول:وعبر هنا بالخلق وفي بشارة زكريا بيحيى بالفعل ، وكل منهما خلق وفعل ، لكن لفظ الفعل يستعمل كثيرا فيما يجري على قانون الأسباب المعروفة .ولفظ الخلق يستعمل في الإبداع والإيجاد ولو بغير ما يعرف من الأسباب .فيقال:خلق السموات والأرض ولا يقال فعل السموات والأرض ، ولما كان إيجاد يحيى بين زوجين كإيجاد سائر الناس عبر عنه بالفعل ، وإن كان فيه آية لزكريا أن هذين الزوجين لا يولد لمثلهما عادة وأما إيجاد عيسى فهو على غير المعهود في التوالد لأنه من أم غير زوج في الظاهر فكان بالأمور المبتدأة بمحض القدرة أشبه ، والتعبير عنه بالخلق أليق ، وإن كان له سبب روحاني جعل أمه بمعنى الزوج كما سيأتي .ولكن هذا السبب غير معهود للناس ولا معروف لهم فمريم لا تعرفه .ولكنها كانت مؤمنة بالله موقنة بقدرته على كل شيء ولذلك أحالها في البشارة على مشيئته لتكون موقنة{ إذا قضى أمرا} أي إذا أراد شيئا ، كما عبر في آية أخرى .فالقضاء بمعنى الإرادة{ فإنما يقول له كن فيكون} قالوا إن هذا ورد مورد التمثيل لكمال قدرته ونفوذ مشيئته والتصوير لسرعة حصول ما يريد بغير ريث ولا تأخر ، بتشبيه حدوث ما يريده عند تعليق إرادته به حالا بطاعة المأمور لقادر على العمل للآمر المطاع .ويسمون الأمر بكن أمر التكوين ، ومنه قوله تعالى:{ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها والأرض ائتيا طوعا أوكرها قالتا أتينا طائعين} [ فصلت:11] أي أراد أن يكونا فكانتا .ويقابله أمر التكليف الذي يعرف بوحي الله لأنبيائه .وقد مر الإلماع لهذا من قبل .
وأقول:اعلم أن الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودا على العادات ، وذهولا عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات ، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين ، ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد ، وهم في كل يوم يرون من شؤون الكون ما لم يكن معتادا من قبل فمنه ما يعرفون له سببا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة .ونحن معاشر المؤمنين نقول إن تلك الأشياء المعبر عنها بالفلتات ، إما أن يكون لها سبب خفي ، وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه ، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك .وإما أن تكون قد وجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب ، وحينئذ يجب أن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ما وعده مستحيلا لأنه لا يعرف له سببا .
ولعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير مألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين ، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي ، أي تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم .وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول .نعم إنه خلاف الأصل وإن كونه جائزا لا يقتضي وقوعه بالفعل .ونحن نستدل على وقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه .
ويمكن تقريب هذه الآية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين:
( أحدهما ) أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب ويستحوذ على المجموع العصبي يحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد .فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضا .وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدا أنه سم ناقع فمات مسموما به ، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب ، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول:إن مريم لما بشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدا بمحض قدرته ، وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالا فعل في الرحم فعل التلقيح ، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت ، وفي مزاج المريض فيبرأ وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متمما لهذا التأثير .
( الوجه الثاني ):وهو أقرب إلى الحق ، وإن كان أخفى وأدق ، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح .وهي أن المخلوقات قسمان أجسام كثيفة وأرواح لطيفة ، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون من النمو أو يكون النمو منه ، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء ، والهواء روح ، ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح ، وأصلها روح بكسر الراء ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه .والماء الذي منه كل شيء روح مركب من روحين لطيفين وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطا بين الكثيف واللطيف ، ولكنه أقرب إلى الثاني .والكهربائية من الأرواح وناهيك بفعلها في الأشباح .فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحا هي التي تحدث معظم التغير الذي نشاهده في الكون ، حتى أننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال احد من قدماء فلاسفتنا ، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أجل وأعظم .فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد ، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم ! !
إذا تمهد هذا فنقول:إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات قد أرسل روحا من عنده إلى مريم فتمثل لها بشرا ونفخ فيها ، فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها ، فحملت بعيسى عليه السلام .وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا ؟ الله اعلم .أما البحث في تمثل هذه الأرواح التي تسمى بلسان الشرع الملائكة فسيأتي الكلام عليه في تفسير قوله تعالى:{ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} [ مريم:17] إذا أنسأ الله لنا في الأجل ووفقنا للمضي في هذا العمل ( التفسير ) والأستاذ الإمام لم يتعرض لهذا البحث .