{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون55 فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين56 وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين57 ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم58}
هذه الآيات موصولة بالقصص السابق ،والذي تدل عليه الآيات قبلها هو ان معركة قائمة بين الخير والشر ؛فعيسى عليه السلام ينادي أنصاره إلى الله تعالى ،ويجيبه الحواريون بالإيمان والإخلاص والاستعداد للابتلاء في سبيل إيمانهم ونصرتهم للسيد المسيح عليه السلام ،والشر يدبر التدبير السيئ ،والله من ورائهم محيط ،يدبر الخير ويهدي إليه{ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}وفي هذه الآيات يبين سبحانه خيبة تدبيرهم ونجاته عليه السلام من شرهم ،وذلك قوله تعالى:{ إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي}:
والمعنى:اذكر يا محمد للعظة والاعتبار قصص عيسى بن مريم ،غذ قال الله تعالى له في نداء رحيم منجيا له من أذى اليهود الذين كانوا ولا يزالون أعداء لكل خير ،أنصار لكل شر:{ يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي}والمعنى المتبادر من هذا النص الكريم ان الله تعالى توفى عيسى كما يتوفى النفس كلها ،وانه رفع مكانته برفع روحه غليه سبحانه وتعالى ،كما ترفع أرواح الأنبياء إليه سبحانه وتعالى ،هذا ظاهر هذا النص ،ولكن جاءت نصوص أخرى يفيد ظاهرها ان الله تعالى رفعه بجسده غليه سبحانه ؛فقد قال تعالى:{ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا إتباع الظن وما قتلوه يقينا157 بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما158}[ النساء]فظاهر هذا النص أن الله تعالى رفعه إليه بجسمه ؛لأنه مقابل بالقتل والصلب ،ولا يصلح مقابلا لهما رفعه بالروح ؛لأنه يجوز ان يجتمع معهما ،ويؤيد هذا ما ورد في صحاح السنة من ان عيسى عليه السلام سينزل على الأرض فيملؤها عدلا ،كما ملئت جورا وظلما ؛فقد روى مسلم عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب ،وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية ،ولتتركن القلاص{[501]} فلا يسعى عليها ،ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ،ويدعون على المال فلا يقبله أحد"{[502]} فإن ظاهر هذا الحديث يفيد انه ينزل بجسمه من الملكوت الأعلى .
وإزاء تعارض ظواهر النصوص على ذلك النحو ،كان لا بد من تأويل جانب منها لتكون ثمة مواءمة بينه وبين الأخرى ؛ففريق من العلماء وهم الأقل عددا ،أجروا قوله تعالى في الآية الكريمة التي نتكلم في معناها على ظاهرها وأولوا ما منزلتك وروحك إلي ،فالله سبحانه وتعالى توفاه كما يتوفى النفس كلها ،ورفع روحه كما يرفع أرواح النبيين إليه .
وإذا كان أصحاب هذا الرأي قد فسروا الآية على ذلك الظاهر ،فقد قرروا انه لا معارضة بينها وبين الأحاديث التي تفيد النزول ؛لأنها تدل على مجرد العودة عن أخذناها بظاهرها ،وليس الله سبحانه وتعالى بعاجز عن ان يرد روحه إلى جسمه ،وهو الذي يحيى العظام وهي رميم ، وكما قال تعالى:{. . .كما بدأكم تعودون29}[ الأعراف]وفضل عيسى عليه السلام انه عاد إلى جسده قبل ان يعود غيره على جسده ،هذا إذا قبلت هذه الأحاديث بظاهرها من غير تأويل ،ومن غير نزر إلى سندها وكونها أخبار آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد .
وأما التوفيق بين الآية الكريمة وبين قوله تعالى:{ بل رفعه الله إليه}فإنه في نظر أصحاب ذلك النظر لا يحتاج إلى عناء في التأويل ؛لن الإضراب الذي تضمنته"بل"إضراب عن القتل والصلب ، وليس إضرابا عن الموت الطبيعي ،وكونه لا يقتل ولا يصلب لا يقتضي انه لا يموت موتا طبيعيا ، والتعبير بقوله:{ بل رفعه الله إليه}فيه إشارة إلى معنى الكرامة والإعزاز والحماية ، وانه تعالى حاميه منهم ،ومانعه دونهم ،وأنهم لن يتمكنوا من رقبته ؛إذ إن الذي يحميها هو خالق الكون ،وخالق القدر .
هذا هو التفسير الأول للآية الكريمة ،وهو الذي يجريها على ظاهرها من غير أي تأويل ،ويقرر انه إن كان لا بد من تأويل فهو فيما يعارض ظاهره ظاهرها ،على ان التوفيق في ذاته ممكن من غير تأويل بعيد او قريب ،إذ الظاهر أن التفسيرين في نظرهم غير متعارضين ،والتوجيه الصحيح لمعانيها يجعلها متلاقية غير متنافرة وإن التأويل إنما يكون بترك ظاهر الآية الكريمة:{ متوفيك ورافعك إلي} .
والتفسير الثاني:يقرر ان الرفع بالجسم لا بالروح فقط ،وان عيسى حي في السماء ،وان الأرض قد خلت منه ليعود إليها فيملؤها عدلا ،بعد أن ملئت جورا ؛وغن أصحاب هذا الرأي وهم الأكثرون ويحتاجون بلا ريب إلى تأويل هذه الآية ،ولهم في التأويل طرق مختلفة ،منها ان قوله{ متوفيك} ليس معناها مميتك ،بل معناها هو المعنى اللغوي الأصلي ؛إذ إن التوفي في اللغة أخذ الشئ وافيا تاما ،والمراد في نظرهم أني موفيك حياتك كلها في الدنيا على الأرض ببقائك فيها ،ثم رافعك إلى السماء تستوفي حظك من الحياة .ولكن يعارض هذا التأويل ان القرآن له استعمال في العبارات يخصصها ،وقد خصص هذا اللفظ بالموت ،كما خصصته اللغة ،ومن ذلك قوله تعالى:{ والله يتوفى النفس حين موتها}وقوله تعالى:{ قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم . . .11}[ السجدة] .
ومن التأويلات:انهم فسروا الوفاة بمعنى النوم باعتبار ان النوم هو الموتة الأولى ،ومن ذلك قوله تعالى:{ وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار . . .60}[ الأنعام] .والمعنى على هذا منومك نوما عميقا ،ثم رافعك في أثناء هذا النوم إلي .
ومن التأويلات:ما ذكره القرطبي بقوله:{ إني متوفيك ورافعك إلي}على التقديم والتأخير ؛لن الواو لا توجب الرتبة ،والمعنى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد ان تنزل من السماء ،كقوله تعالى:{ ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما واجل مسمى129}[ طهي ،والتقدير ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما{[503]} أي ان الوفاة ستكون ،وليست سابقة على الرفع ،بل هي متأخرة عنه ،أي أنه عليه السلام يموت بعد ان ينزل إلى الأرض ولا شك ان هذا ضرب من التأويل ،وليس ظاهر النص .
ذانك نظران في تفسير الآية الكريمة ،أولهما يعتمد على ظاهر الآية الكريمة ،وعلى انه لا تعارض بين هذا الظاهر وظواهر النصوص الأخرى ،ومنهم من يقف من أحاديث نزوله إلى الأرض موقف المستفهم ؛لماذا اختص عيسى بهذا ؟ ولماذا لا يكون هذا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؟ويخشى ان يكون ذلك من دس النصارى ،وكم دسوا في الإسلام ؛ولقد كان في عصر التابعين يوحنا الدمشقي في بلاط بني أمية يؤلف الجماعات السرية التي تدس الآراء والأفكار التي من شانها ان تفسد عقائد المسلمين .
أما النظر الثاني فاعتماده الأكبر على الأخبار التي وردت بنزول عيسى عليه السلام وأول من أجلها هذه الآية الكريمة ،مع ان الأخبار احاديث آحاد ،وأولئك هم الأكثرون كما قلنا .
{ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة}التطهير معناه إزالة الأدران والخبائث ،والله سبحانه وتعالى طهر المسيح عليه السلام من الآثام التي حاول ان يلصقها به وبأمه اليهود ومن جاءوا بعده ممن ادعوا إتباعه وهم لم يتبعوه ،وأبدى سبحانه وتعالى للملأ من اليهود طهر أمه وعفتها ونزاهتها ،كما أبدى روحانية وسلامته مما رماه به من عادوه وأفرطوا في عداوته ، وما رماه به من أحبوه وأفرطوا في محبته حتى حسبوا انه غله او ابن إله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا . هذا تطهير الله لعيسى عليه السلام ،ولقد طهره أيضا بأن لم يمكن ليهود والرومان من صلبه ومن قتله بل شبه لهم ، ونجاه الله تعالى من كيدهم ؛وهكذا طهر الله عيسى من كل رجس معنوي او حسي ،ومن كل أذى حسي او معنوي .
ولقد جعل الله سبحانه وتعالى الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ،وهنا يسأل القارئ لكتاب الله:من هم الذين اتبعوه ؟ومن هم الذين كفروا به ؟وما هذه الفوقية التي تكون للذين اتبعوه ؟
ليس الذين اتبعوه هم الذين قالوا إنا نصارى او نحن نتبع المسيح وكانوا يزعمون انه ثالث ثلاثة او ابن الله ؛لأنه ما قال هذا وما ادعاه ،ولكنه جاء بالتوحيد ،والإيمان بالله العلي القدير وحده ؛وغنما الذين اتبعوه هم الذين آمنوا به ،وبأنه رسول من رب العالمين ،وبأنه بشر كسائر البشر ،وان تعاليمه هي العدالة ،والرحمة ،والسماحة ،والإخلاص في طلب الحق وعبادة الله تعالى كما امر الله ؛ولذلك لم يجانب الحق من قال إن أتباعه هم المسلمون ،لأنهم هم الذين يؤمنون برسالته حق الإيمان من غير إفراط ولا تفريط ،ومن غير ان يتجاوزوا به قدره الذي قدره الله تعالى له وسواء عليه .
والفوقية ليست هي القوة ؛فإن الأسد أقوى من الإنسان ،ولكنه ليس فوقه ولا أعلى منه ،بل الفوقية هي فوقية الإدراك والإيمان والإخلاص ؛وذلك لن سبب الفوقية هو الإتباع ،والمسبب من جنس السبب ،فالسبب معنوي روحي فالفوقية روحية معنوية ، فليست الفوقية إذن فوقية سيف وسنان ،بل فوقية حجة ،وبرهان ، .ولقد قال الزمخشري في ذلك:"يعلونهم بالحجة ،وفي أكثر الأحوال بها وبالسيف ،ومتبعوه هم المسلمون ؛لأنهم متبعوه في أصل الإسلام ،وغن اختلفت الشرائع ،دون الذين كذبوه ،والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى"{[504]} .
{ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}إن الفوقية التي أشرنا إليها هي فوقية الحجة القوية الثابتة عن النظر بعين الحق السائغ ،والقسطاس المستقيم ،وإن هذه الحجة قائمة في الدنيا إلى يوم القيامة ،حتى إذا انتهوا إلى ذلك اليوم المعلول المقطوع بأنه سيقع لا محالة ،يكون الاحتكام بها إلى الحكم العدل العليم ؛ولذا قال سبحانه:{ ثم إلي مرجعكم}أي إلي رجوعكم ومآبكم ،وإذا كان المرجع إلى الله والمصير إليه سبحانه وهو العليم بكل شئ ،فهو الذي يحكم بينهم فيما كانوا يختلفون فيه ،وحجة بعضهم فوق حجة الآخرين ،فالفاء في قوله تعالى:{ فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون}هي التي تسمى فاء الإفصاح ؛لأنها تفصح عن شرط مقدر ،وقد ذكرناه في مطوي كلامنا .