ولقد قال تعالى بعد ان بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها{ ومكروا ومكر الله}:
أي ان هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ،ورآه عيانا منهم بعد ان كون فيهم مدرسة الهداية بالحواريين ،واخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه او على دعوته .والمكر ،كما يظهر من عبارات القرآن:هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به ؛ولذا ذكر المكر إلى الله تعالى ،ولا يمكن ان يكون عمل الله تعالى إلا خيرا ،ولذا ذكر المكر موصوفا بالسوء في قوله تعالى:{ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله . . .43}[ فاطر]فدل هذا على ان مطلق المكر لا يعد سوءا ، مكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن ان يكون خيرا ،ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا ان يكون خيرا .وقد قصر بعض المفسرين المكر على التدبير السيئ ،وسمى تدبير الله لإحباط تدبيرهم مكرا من قبيل المشاكلة ورد الفعل بمثله وغن لم يكن له وصفه ،كتسمية رد الاعتداء اعتداء في مثل قوله تعالى:{ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم . . .194}[ البقرة]وما هو إلا عمل عدل ولكن سمى به للتماثل بين الفعلين في الواقع ليتحقق الدفاع العادل .
دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام كما قتلوا يحيى ،فكانوا-لاستيلاء الفساد على قلوبهم-قد أصابهم شره لدماء الأطهار دبروا ذلك ،والله يدبر حمايته ،وقد تم ما أراد الله تعالى ؛ولذا قال تعالى:
{ والله خير الماكرين}فسرها بعض المفسرين بان الله سبحانه لا يصدر عنه إلا الخير ،فمكره خير مكر لأنه لا يتصور فيه شر قط .وفسر الزمخشري قوله:
{ والله خير الماكرين}بقوله:أقواهم مكرا ،وأنفذهم كيدا ،وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب ؛وذلك كلام مستمد من ذوق بياني رائع والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار ،وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار ،ربنا هيئ لنا من أمرنا رشدا .