واستجاب اللّه لهم ذلك الدعاء كما يوحي الجوّ الذي تتحرّك فيه الآيات ،وخاض الحواريون بقيادة عيسى( ع ) المعركة مع الكافرين وعاشوا الاضطهاد .وبدأ الكافرون يدبّرون المكائد والحيل في عمليّة مكر خفيٍّ حاقدٍ ليطفئوا نور اللّه بمكرهم ،ولكن اللّه شاء غير ما يشاؤون ،ودبّر غير ما يدبّرون ،فقد أراد اللّه لرسالته أن تنطلق من مواقع اضطهاد الكافرين لرسله ،لأنَّ الاضطهاد يعطي للرسالة قوّتها وثباتها وعمقها وامتدادها في مشاعر النّاس وأفكارهم ...فهم قد يستسلمون لسلطة الكافرين ،وقد يعاونونهم في اضطهاد الرسل وأتباعهم من المؤمنين ،وقد يخضعون لما يقدّم لهم من إغراءات السلطة ،فيعلنون الحرب على الرسالة ...ولكنَّهمفي الوقت نفسهيختزنون في منطقة اللاشعور عمق الاحترام لهؤلاء الدعاة الذين يتمرّدون على العذاب ،ويسخرون من الاضطهاد ،وينتصرون على كلّ نوازع الضعف في نفوسهم ،ويحوّلون الحزن والألم في داخلهم إلى فرح كبير ...
ثُمَّ تبدأ البذور الرسالية تتناثر في أعماقهم من خلال كلمة يسمعونها هنا ،ولفتةٍ يشاهدونها هناك ،وموقف يواجهونه ويقفون فيه مع رسالاتهم ...وتنمو البذور بعد ذلك لتتحوّل إلى عشب إيماني ،وخضرةٍ روحية يانعةٍ تهتز بها الروح ويزهو بها الشعور .وتكون المفاجأة ،فهؤلاء الجلادون يتحوّلون إلى مؤمنين خاشعين يطلبون من اللّه التوبة ومن الرسول وأتباعه العفو .وهؤلاء المتفرّجون الذين يصفقون للسلطة عندما تضطهد الرساليين يتحوّلون إلى عاملين في ساحة الإيمان ...ويتحوّل التصفيق في أكفّهم إلى الجانب الآخر ،فيصفقون لمواقف الجهاد في نهاية المطاف ...وهكذا كان تدبير اللّه لحركة الرسالات في تخطيط بعيد المدى .وإذا دبّر اللّه أمراً فإنَّه خير من يدبّر ،لأنَّه هو الذي يملك زمام الحياة والإنسان في كلّ مصادره وموارده ...[ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّه وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] وقد أشرنا في المفردات إلى أنَّ المكر لا ينحصر في التحرّك الخفي السيّىءكما هو المعروف لدى النّاسبل هو الطريقة الخفية التي يُراد منها تعطيل مبادرات الآخرين عمّا يريدونه على مستوى الفكرة والواقع ،سواء كان ذلك خيراً أو شراً ،وفي ضوء هذا جاء وصف المكر بالسيّىء في قوله تعالى: [ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ] ( فاطر:43 ) ،ما يوحي بأنَّ هناك مكراً سيئاً ومكراً حسناً ،ولهذا أمكن نسبة المكر إلى النّاس الذين دبّروا لعيسى ( ع ) المكائد في خططهم الشيطانية التي حاولوا فيها إسقاط رسالته وإبطال دعوته وإبعاده عن ساحة التغيير الرسالي للواقع وتهديد حياته بالقضاء عليهوهذا هو المكر السيّىءكما أمكن إسناد المكر الحسن إلى اللّه سبحانه وتعالى الذي خطّط ودبّر لحفظ حياة نبيّه وصون دعوته وإعداد الفرص الكفيلة بإنجاح رسالته في مدى الامتداد الزمني .وإذا كان اللّه هو الذي يدبّر بمكره الحسن ،فهل يملك أحد أن يقف أمامه أو يأمن مكره ؟إنّه الذي يملك الأمر كلّه ،ويحيط به من كلّ جهاته ،ويحرّكه من خلال حكمته ،بينما لا يملك الآخرون من الكافرين إلاَّ القليل القليل مما مكنهم اللّه به من القوّة التي أراد لهم أن يوجهوها في طريق الخير فوجهوها في طريق الشر .وهكذا نستوحي من هذه المقابلة بين مكر اللّه ومكر النّاس كيف يتحرّك الصراع بين الحقّ والباطل ،والإيمان والكفر ،والخير والشرّ ،لتكون النتيجة في نهاية المطاف للحقّ والإيمان والخير ،لأنَّها إرادة اللّه التي لا بُدَّ من أن تصل إلى غاياتها ولو بعد حين .