ما معنى الوفاة في قصة عيسى( ع ) ؟
...أمّا عيسى ،فإنَّ اللّه أراد له أن لا يقع في قبضة الكافرين الذين جاؤوا به ليصلبوه ويقتلوه .وتحرّكت الإرادة الإلهية الخفيّة ،في ما أعلنه اللّه لعيسى( ع ): [ إِذْ قَالَ اللّه يا عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ] .
وحار المفسِّرون في تحديد معنى هذه الكلمة ؛فهل تعني الموت أم تعني بلوغ الحدّ الذي حدّده اللّه له في الأرض في ما توحيه كلمة «التوفية » من معنى بلوغ الحدّ ؟!.ويرى البعض أنَّ إطلاق الوفاة على الموت كان على أساس هذه الملاحظة ،باعتباره نهاية حدّ الحياة من دون أن يكون لموت الحياة في الجسد مدخلية في طبيعة المعنى ،فذهب البعض إلى أنَّ اللّه قبضه إليه بضع ساعات ثُمَّ أحياه ،وذهب آخرون إلى أنَّ اللّه رفعه إليه من دون أن يقبض روحه ،لأنَّه سيعيش إلى نهاية الحياة الدنيا .
وقد انطلقت الفكرة التي ترى في مادة الوفاة معنى لا ينطبق على الموت ،من خلال القول إنَّ «التوفي أخذ الشيء أخذاً تاماً ،ولذا يستعمل في الموت ،لأنَّ اللّه يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه ،قال تعالى: [ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا] ( الأنعام:61 ) أي أماتته ،وقال تعالى: [ أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الاْرْضِ أَئنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ] إلى أن قال: [ قُلْ يَتَوَفّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكّلَ بِكُمْ] ( السجدة:11 ) ،وقال تعالى: [ اللّه يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ موْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى] [ الزمر:42] .والتأمّل في الآيتين الأخيرتين يعطي أنَّ التوفي لم يُستعمل في القرآن بمعنى الموت ،بل بعناية الأخذ والحفظ ؛وبعبارة أخرى ،إنَّما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ ،للدلالة على أنَّ نفس الإنسان لا يبطل ولا يفنى بالموت الذي يظنُّ الجاهل أنَّه فناء وبطلان ،بل اللّه تعالى يحفظها حتّى يبعثها للرجوع إليه » .
ولكن الظاهر أنَّ كلمة «الوفاة » استعملت في الأخذ الخاص وهو الموت ،وأمّا في الآية الثانية فلمقابلة الكلمة بقوله: [ وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ] ما يوحي بأنَّ المراد بالوفاة الموت ،ولكنَّه استعمل هذه الكلمة تفنناً في التعبير ،كما في الآية الثانية ،وأمّا في الآية الأولى ،فلأنَّ الإشارة في كلمة [ يَتَوَفَّاكُم] إلى الوفاة الخاصة التي تنفصل فيها الروح عن الجسد الذي هو المصداق الحقيقي للمعنى ،وهو «أخذ الشيء أخذاً تاماً » .أمّا ملاحظة أنَّه استعمل كلمة «التوفي » للدلالة على أنَّ نفس الإنسان لا تبطل ولا تفنى بالموت ،فلا قرينة عليه من اللفظ ،بل الظاهر من الحديث عن وفاة النفس ووفاة الأشخاص هو التأكيد على المعنى الطبيعي للموت الذي يسند إلى النفس أو الإنسان من خلال دلالتهما على الذات ،وليس هناك أيّة إشارة إلى مسألة فناء النفس وعدم فنائها ،من حيث هي موضع الجدل بين المثبتين والمنكرين .
...وقد جاء التعبير عن النوم بكلمة «التوفي » كما في قوله تعالى: [ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ] ( الأنعام:60 ) وهذا ما اعتبره البعض بأنَّ الكلمة استعملت في معناها المطابقي وهو الأخذ ،لا في معناها المتعارف وهو الموت ؛لكن يمكن أن يردّ هذا بأنَّ «التوفي » استعمل في الموت بطريقة المجاز ،بمعنى تنزيل النوم منزلة الموت ،بلحاظ أنَّه موت مؤقت ،وأنَّ النائمكما يقول البعضميت يتنفس ،وربَّما كان هذا ظاهراً من قوله تعالى: [ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى] فكأنَّ النفس تموت في النوم موتاً مؤقتاً قد يمتد في الزمن وقد يتحوّل إلى حياة ،ولعلّ الكلمة النبوية الشريفة المشهورة توحي بذلك ،وهي «لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون »[ 6] ،واللّه العالم .
وقال بعض المتأخرين من المفسِّرين: إنَّ اللّه أخفاه عن أعين النّاس ،فعاش عيشة طبيعية بعيداً عن أنظارهم حتّى قبضه اللّه ورفعه إليه كما يرفع كلّ عباده إليه بروحه .وهذا حديث لا نريد أن نفيض فيه كثيراً ،لأنَّه قد يدخل في باب الرجم بالغيب في بعض تفاصيله ،وقد لا نصل فيه إلى نتيجة محدّدة حاسمة ،ولا نجد فيه كبير فائدة في ما يتصل باستيحاء القرآن لحياتنا الفكرية والعملية ...فإنَّنا نعلم أنَّ اللّه سبحانه قادر على كلّ شيء في أصل الخلق وفي أشكاله وأوضاعه وطريقة بقائه وفنائه ،فليس هناك حدّ لقدرته وإرادته ،فاللّه القادر على أن يرفع الإنسان بروحه قادر أن يرفعه بجسده ،واللّه الذي يريد للإنسان أن ينهي حياته في الأرض بالموت هو الذي يريد له أن ينهيها بغير ذلك .وهذا ما نريد أن نجمله من التفصيل الذي خاضه المفسِّرون في قوله تعالى: [ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ] فإنَّ الفكرةكلّ الفكرةهي أنَّ اللّه قد دبّر بحكمته وبخطّته الخفية خلاص عيسى ( ع ) من اضطهاد اليهود ومن محاولتهم قتله .أمّا ماذا فعل ،وما الخطّة ؟فذلك مما اختص اللّه بعلمه ،فلنرجع الأمر فيه للّه ،في ما يريد أن يعرّفنا إياه ،وما لا يريد أن يعرّفنا سرّه ...
ولكن هنا ملاحظة تفسيرية ذكرها العلامة الطباطبائي ( قدس سرّه ) في تفسير الميزان حول كلمة [ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ] حيث قال: «إنَّ المراد بالرفع الرفع المعنوي دون الرفع الصوري ،إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها الأجسام والجسمانيات بالحلول فيها ،والقرب والبعد منها ،فهو من قبيل قوله تعالى في ذيل الآية: [ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ] ،وخاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض لظهور أنَّ المراد حينئذٍ هو رفع الدرجة والقرب من اللّه سبحانه ،نظير ما ذكره تعالى في حقّ المقتولين في سبيله: [ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ] ( آل عمران:169 ) وما ذكره في حقّ إدريس ( ع ): [ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً] ( مريم:57 ) .
وربَّما يُقال: إنَّ المراد برفعه إليه رفعه بروحه وجسده حيّاً إلى السَّماء ،على ما يشعر به ظاهر القرآن الشريف ،أنَّ السَّماء ،أي الجسمانية ،هي مقام القرب من اللّه سبحانه » .
وإنَّنا نرجِّح الوجه الثاني من خلال ظاهر الآية ،لأنَّ التعبير بالرفع إليه يوحيمن الناحية التعبيريةبالجانب المكاني الذي يختص به ويمثّل موقع العلوّ لديه الذي يتناسب مع علوّ مقامه وسموّ شأنه ،حتّى أنَّ كلمة: [ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ] توحي بذلك من خلال الذهنية الإيمانية التي تختزن في داخلها معنى اعتبار السَّماء بمعناها المادي الذي يجعلهم يتطلّعون إليها ،هي المنطقة التي تمثّل درجة العلوّ التي تنتسب إلى اللّه في مقابل الأرض التي هي دونها في درجة القرب المكاني ،ولو أراد الرفع المعنوي لكان الأقرب التعبير بالرفع بشكل مطلق ،كما في قوله تعالى: [ يَرْفَعِ اللّه الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] ( المجادلة:11 ) ،أو في قوله تعالى: [ ورفعناه مكاناً علياً] .
أمّا قوله تعالى: [ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ] فقد يعني إبعاده عن مواقع القذارة النفسية والروحية والأخلاقية التي يمثّلها المجتمع الكافر في عاداته وتقاليده وقيمه المادية التي تلوّث روح الإنسان وعقله وعمله ،وذلك من خلال اللطف الإلهيّ الذي أغدقه اللّه عليه ،فجعله إنساناً طاهراً في ذاته ،يعطي للآخرين طهارة الفكر والروح والقلب والشعور والحياة .
وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا:
واختفى عيسى ( ع ) عن الأنظار ولم تختفِ دعوته ،وغاب عن الساحة ولم يغب أتباعه ،بل اندفعوا بكلّ صبر وإيمان ،يركّزون الأساس ،ويرفعون البناء ويصنعون للمستقبل فكره وروحيّته ونظامه ...وكانت رعاية اللّه لهم في كلّ خطواتهم العمليّة ،فبدأ الإيمان يتقدّم ليتخذ مواقعه الثابتة في حياة النّاس ،وبدأ الكفر ينحسر تدريجياً .
وكان وعد اللّه لعيسى حقّاً: [ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ] فها هم اليهود يقفون في الدرجة السفلى أمام أتباعه ،ولكن كيف ذلك ؟ومن هم أتباعه ؟هذا ما خاض فيه المفسِّرون كثيراً ،وهذا ما يجب أن نتوقف أمامه قليلاً لنفهم معنى هذه الفقرة من الآية .فقد ذهب بعض المفسِّرين إلى أنَّ المراد بالذين اتبعوه ،هم أهل الحقّ من النصارى الذين ساروا على دعوته الحقيقية ،ومن المسلمين الذين اتبعوه باتباعهم للنبيّ محمَّد ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) الذي بشّر به وبرسالته ،وأنَّ معنى الفوقية هنا هو الفوقية في الحجّة والبرهان ،لأنَّ حجّة عيسى ( ع ) وأتباعه في نبوّته وصحة دعوته ظاهرة بيّنة كلّما تقدّم الزمن وخفّت الضغوط ،بينما كانت حجّة الكافرين الذين خالفوه وعاندوه غير مستندة إلى أساس ،فهي لا تزداد على مرور الأيام إلاَّ انحساراً وضعفاً ...ولكن هذا الوجه مما لا تساعد عليه الآية لا بلفظها ولا معناهاكما يقول صاحب تفسير الميزان«فإنَّ ظاهر قوله: [ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ] أنَّه إخبار عن المستقبل ،وأنَّ التوفّي والرفع والتطهير والجعل سيتحقّق في المستقبل ،على أنّ قوله: [ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ] وعد حسن وبشرى ،وما هذا شأنه لا يكون إلاَّ في ما سيأتي ،ومن المعلوم أن ليست حجّة متّبعي عيسى( ع ) إلاَّ حجّة عيسى( ع ) نفسه ،وهي التي ذكرها اللّه تعالى ضمن آيات البشارة ،أعني بشارة مريم ،وهذه الحجج قائمة حين حضور عيسى قبل الرفع وبعد رفع عيسى ،بل كانت قبل رفعه( ع ) أقطع لعذر الكفّار ومنبت خصومتهم ،وأوضح في رفع شبههم ،فما معنى وعده ( ع ) أنَّه ستفوق حجّة متبعيه على حجّة مخالفيه ؟ثُمَّ ما معنى تقييد هذه الغلبة والتفوّق بقوله: [ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ] ،مع أنَّ الحجّة في غلبتها لا تقبل التقييد بوقت ولا يوم ...» .
ويرى صاحب الميزان ،أنَّ المراد بالذين اتبعوه هم النّصارى ،وبالذين كفروا اليهود ،فإنَّه يكفي إطلاق هذه الصّفة على المتأخرين منهم ،وإن خالفوه في بعض تفاصيل رسالته .إنَّهم يعتبرون امتداداً للذين اتبعوه حقيقة في عصره وبعد عصره ،في مقابل اليهود الذين كفروا به في حياته قبل رفعه وبعد رفعه على امتداد الزمن .وبذلك تكون الآية في مقام «بيان نزول السخط الإلهي على اليهود وحلول المكر بهم وتشديد العذاب على أمتهم ...» .
«وها هنا وجه آخر ،وهو ،أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى والمسلمون قاطبة ،وتكون الآية مخبرةً عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى يوم القيامة ...وهذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند التدبر ...» ،كما يقول صاحب الميزان .
وربَّما كان جوّ الآية يوحي بالوجهين الأخيرين ،انطلاقاً من أنَّ الآية واردة في مقام إعطاء الفكرة ،بأنَّ الذين يضطهدون الأنبياء وأتباعهم لا يحصلون على الامتداد في الزمن في عمليّة ممارسة القوّة والغلبة ،لأنَّ رسالات اللّه سوف تتقدّم وتفرض نفسها على الساحة إن عاجلاً أو آجلاً ،على أساس سنّة اللّه في خلقه ،من أنَّ الحقّ لا بُدَّ من أن يفرض نفسه في نهاية المطاف ؛واللّه العالم بحقائق آياته ...
اللّه الحَكَم العدل:
وتلك هي قصة الصراع بين الكفر والإيمان ،وبين الحقّ والعدل في حساب الدنيا ؛أمّا إذا رجع النّاس إلى اللّه ووقفوا بين يديه ليحكم بينهم ،فهناك الحكم العدل الذي يضع الحقّ في ميزانه الصحيح ،ويظهر الباطل في حجته الضعيفة التي لا تثبت أمام النقد ،[ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] وهذه اللفتة القرآنية تنقل النّاس من أجواء الحياة الدُّنيا التي يتخبّط فيها النّاس في الضلال من خلال ما يخوضونه من صراع الحقّ والباطل ،إلى أجواء الآخرة التي يسود فيها العدل في حسابات الصراع الفكري والعملي ...فلا مجال إلاَّ للحقّ الذي يقف فيه المحقّ رافع الرأس عالياً ،لأنَّه لا يخاف من الاضطهاد الذي يمارسه ضدّه أهل الباطل في خنق صوت الحقّ في الحياة ؛ويقف فيه المبطل مهزوماً ذليلاً ،لأنَّه لا يملك في ذلك الموقف الوسائل الكفيلة بإعطاء الباطل صورة الحقّ من خلال ما يحشده من الألوان المزيّفة ،والأساليب المضلّلة المستندة إلى القوّة الغاشمة ...وربّما كانت القيمة في هذه اللفتة أنَّها توحي للمحقّ بالقوّة في موقفه ،لأنَّها تبعد عنه كلّ المشاعر السلبيّة التي قد يخضع لها الإنسان تحت ضغط الاضطهاد الذي قد يقوده إلى اليأس ؛كما توحي للمبطل بأنَّه مهما استطاع أن يصنع القوّة المبطلة لمواقفه ،فإنَّه لا يستطيع ذلك إلى نهاية الشوط ،فإنَّ النهاية ستكون في موقف الجميع عند اللّه ،ليكون هو الحكم في ما يختلفون فيه ،وهنالك يخسر المبطلون .