التّفسير:
قلنا إنّ اليهودبالتعاون مع بعض المسيحيّين الخونةقرّروا قتل السيّد المسيح ،فأحبط الله مكرهم ،ونجى نبيّه منهم .في هذه الآية يذكر الله نعمته على المسيح قبل وقوع الحادثة ،قائلاً: ( إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ) .
من المعروف عند المفسّرين ،بالاستناد إلى الآية 157 من سورة النساء ،أنّ السيّد المسيح لم يُقتَل ،وأنّ الله رفعه إلى السماء .غير أنّ المسيحيّين يقولون إنّه قُتِل ودُفِن ،ثمّ قام من بين الأموات وبقي لفترة قصيرة على الأرض ثمّ صعد إلى السماء{[577]} .
ولكن الذي لابدّ من قوله الآن هو أنّ هذه الآية ليس فيها دليل على موت عيسى ،على الرغم من أنّ بعضهم تصوّر أنّ كلمة «متوفّيك » من
«الوفاة » .وعلى ذلك فإنّهم يرون أنّ هذا الموضوع يتعارض مع الرأي السائد بين المسلمين ،والذي تؤيّده الأحاديث ،من أنّ عيسى لم يمت وأنّه حي .ولكن الأمر ليس كذلك .
«الفوت » هو بُعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذّر إدراكه .و «الوافي » الذي بلغ التمام ،ووفى بعهده إذا أتمّه ولم ينقضه .وإذا استوفى أحد دَينه من المدين قيل «توفّى دَينه » .
وفي القرآن وردت «توفّى » مراراً: ( وهو الذي يتوفّاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ){[578]} .فهنا عبّر عن النوم بكلمة «يتوفّاكم » .
هذا المعنى نفسه يرد في الآية 42 من سورة الزمر ،كما ترد كلمة «توفّى » في آيات أخرى بمعنى الأخذ .
صحيح أنّ «توفّى » قد تأتي أحياناً بمعنى الموت ،ولكنّها حتّى في تلك المواضع لا تعني الموت حقّاً ،بل بمعنى قبض الروح .والواقع أنّ مادّة
«فوت » ومادّة «وفي » منفصلتان تماماً .
ممّا تقدّم يكون تفسير الآية واضحاً .
يقول الله: يا عيسى إنّني سوف أستوفيك وأرفعك إليّ .وهذا يعني حياة عيسى ،لا موته ( وطبعاً إذا كانت كلمة «توفي » بمعنى قبض الروح فقط ،فإن لازم ذلك هو الموت ) .
ثمّ تضيف الآية ( ومطهّرك من الذين كفروا ) .
هذا جانب آخر من خطاب الله إلى المسيح .والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه من الكفّار الخبثاء البعيدين عن الحقّ والحقيقة الذين كانوا يوجّهون إليه التهم الباطلة ،و يحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته ،فنصر الله دينه ،وطهّره من تلك التهم ،بمثل ما نقرأه عن نبيّ الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أوّل سورة الفتح ( إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ) .أي أنّنا هيّأنا لك نصراً واضحاً كي يغفر لك الله ذنوبك السابقة واللاحقة ( ويطهّرك من التهم التي ألصقوها بك على شكل ذنوب ) .
كما يحتمل أن يعني التطهير إخراج المسيح من ذلك المحيط الملوّث .وهذا يناسب الآية السابقة .
( وجاعل الذين اتّبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) .
وهذه بشارة يبشّر بها الله المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضيّ في الطريق الذي اختاروه .والواقع أنّ هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبّؤات القرآن الغيبية التي تقول إنّ أتباع المسيح سوف يسيطرون دائماً على اليهود الذين عادوا المسيح .
وها نحن اليوم نرى هذه الحقيقة رأيَ العين ،فاليهود الصهاينة ، بغير الاستناد إلى المسيحيّينغير قادرين على إدامة حياتهم السياسية والاجتماعية يوماً واحداً .بديهيّ أنّ «الكافرين » هنا هم اليهود الذين كفروا بالمسيح .
وفي ختام الآية يقول تعالى: ( ثمّ إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) ويعني أن ما تقدّم من الانتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا ،أمّا المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة .
ملاحظة
هل الديانتان اليهودية والمسيحيّة باقيتان ؟
هنا يتبادر سؤال إلى الذهن ،وهو أنّ اليهود والنصارىبموجب هذه الآيةسيبقون في الدنيا حتّى يوم القيامة ،وأنّ أتباع هاتين الديانتين سيبقون أيضاً ،مع أنّ الأخبار الخاصّة بظهور المهدي ( عليه السلام ) تبيّن أنّه يخضع جميع الأديان ويحكم العالم كلّه .
يتّضح جواب هذا السؤال بالتدقيق في الأحاديث .فنحن نقرأ في الأحاديث عن المهدي ( عليه السلام ) أنّه لا يبقى بيت في البدو ولا في الحضر إلاَّ ويدخله التوحيد ،أي أنّ الإسلام سيكون الدين الرسمي في العالم كلّه ،وتكون الحكومة حكومة إسلامية ،ولا يحكم العالم سوى القوانين الإسلامية .و لكن هذا لا يمنع من وجود أقلّية من اليهود والنصارى تعيش تحت ظلّ حكومة المهدي ( عليه السلام ) وفق شروط «أهل الذمّة » .
إنّنا نعلم أنّ حكومة المهدي ( عليه السلام ) لا تجبر الناس على اعتناق الإسلام ،بل تتقدّم بالمنطق .أمّا التوسّل بالقوّة العسكرية فلبسط العدالة ،وللإطاحة بالحكومات الظالمة ،ولانضواء العالم تحت لواء الإسلام ،لا لإجبار الناس على قبول الإسلام ،وإلاَّ فلن يكون هناك أي معنى لحرية الإرادة والاختيار .