خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته ،ملبين نداءه ،معلنين نصرته ،ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين:
{ ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول}وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية ،وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم ،وتقديم شكر المنعم ،لن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية ،ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية ،ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل ،فقالوا:{ آمنا بما أنزلت}أي صدقنا تصديق إذعان وتسليم وهداية بما أنزلت .وما انزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات ؛فالإيمان الصادق بها يقتضي العمل ،لن العمل يدل على كمال الإيمان ،ولن المخالفة من غفوة الإيمان ،ومن قبيل ذلك قول محمد صلى اله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"{[499]}
.وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما انزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم{ واتبعنا الرسول}وهو عيسى عليه السلام ،وإتباع الرسول يكون بالعمل بهديه ،والأخذ بسنته .
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربهم بهذا الإيمان تلك الضراعة ،فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته ان يقوي الله سبحانه وتعالى إيمانهم ،وان ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة المشاهدة ؛ولذا قالوا:
{ فاكتبنا مع الشاهدين}أي إذا كنا امتلأت قلوبنا بربوبيتك ،وإلوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي ان نكتب مع الشاهدين ؛ومن هم الشاهدون ؟يصح ان نقول غنهم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم ،حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية ،الذين قال في أمثالهم محمد صلى اله عليه وسلم:"اعبد الله كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك"{[500]}فهذه مرتبة من الإيمان ،والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان .ويصح ان تسمى هذه المرتبة مرتبة الشهود او المشاهدة التي يقول عنها الصوفية ،فالمؤمن يتعبد ،ويصفى نفسه من أدران الدنيا ،حتى يصبح كأنه يشاهد الله رب العالمين في أعلى ملكوته ،ويحس في كل فعل كأنه في حضرته العلية كمن يعاينه .
وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأتقياء الأبرار ،وأنهم في أعلى درجات اليقين ،بدليل ان هؤلاء الأتقياء طلبوا ان يكونوا في هذا الصنف ،وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم ،وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء .
أحس عيسى عليه السلام بحدة كفر الكافرين ،وشدة نضالهم ؛ولذلك اتجه إلى ان يكون له دعاة مناصرون أطهار ،تكون منهم مدرسة الحق ،واخذ يبث تعاليمه في تلاميذه ،وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديا مرشدا باعثا الأرواح إلى الإيمان بالحق ،ولكن جحدوا بالحق بعد ان ظهرت أماراته ،وقامت بيناته ،ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته ،ودعوة الحق التي يدعو بها ، ولما رأوا ان نور الحق يزداد انتشارا ،قرروا انه لا بد ان يقطعوا حركته نهائيا بتدبير الشر لشخصه .ويستفاد من الإشارات القرآنية انهم حاولوا قتله ،ولا عجب فقد قتلوا يحيى بن زكريا عليه السلام الذي عاصره .ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر ،فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم .