{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بانا مسلمون52 ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين53 ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين54}
هذا القصص الحكيم مستمر في قصة عيسى ،وقد انتقل في الآيات السابقة من بشارة مريم بأن تكون المختارة لتكون منها الآية الكبرى وهو ان يولد منها ولد هو إنسان حي يأكل ويشرب وينمو من غير أب ينجبه ،إلى ملاقاة قومه له وتكذيبه ؛ولم يكن ذلك الانتقال مفاجئا من غير تمهيد بل مهد له ،فأشار في البشارة إلى مقامه ورسالته وآيته الباهرة القاهرة ؛وبهذا علم القارئ الذي يتلو كتاب الله من السياق رسالته والمعجزات التي تحدى بها قومه ان يأتوا بمثلها ؛وعلى ذلك لم يبين في هذا الموضع ولادة عيسى عليه السلام ،وحال مريم عند ولادته ،وتكلمه في المهد صبيا ،وبين ذلك في سورة مريم في قوله تعالى:{ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا22 فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليثني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا23 فناداها من تحتها الا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا24 وهزي عليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا25 فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر فقولي غني نذرت للرحمن صوما فلن اكلم اليوم إنسيا26 فاتت به قومه تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا27 يا أخت هارون ما كان أبوك امرا سوء وما كانت أمك بغيا28 فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا29 قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا30 وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا31وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا32 والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم ابعث حيا33}[ مريم] . ففي سورة مريم فصل خبر ولادته ،وفي هذه السورة فصل الآيات التي أثبت بها نبوته ،وكان هذا مناسبا لما يجئ بعد ذلك من ملاقاة قومه لدعوته على الله ،وإقامته الآيات التي تدل على رسالته ،فقال:
{ فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله}هذا النص الكريم كان معقبا للآيات الباهرة من إحياء الموتى وإبراء الكمه والأبرص ،وتصوير الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله .وتعقيبه لهذه الآيات ،وكون الكثرة لم يكونوا مؤمنين كما يشير النص ،يدل على ان الآية مهما تكن باهرة قاهرة لا تحمل الجاحدين الذين غلفت قلوبهم دون نور الهداية على الإيمان ،والفاء هنا كأنها فاء التعقيب على الآيات الباهرة ،أي انهم فور هذه الآيات كفروا ولم يتدبروا ،وأحس منهم عيسى هذا الكفر ،فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله .والإحساس هو العلم الذي يكون بالحواس ،وإطلاقه على العلم المجرد بعد ذلك من قبيل تشبيه العلم اليقيني القاطع البدهي بالعلم المدرك بالحواس .
ولما أحس عيسى الذي أوتي هذه البينات الكفر من قومه ،وعلم ذلك علما يقينا ،اتجه إلى من يدعوهم يتعرف من أصاب الإيمان قلبه ليتخذ منهم قوة للدعوة وليكونوا صورة للمهتدين الصادقين ؛ولذلك قال:{ من أنصاري إلى الله}أي من الذين رضوا ان يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي ،على ان يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه ،وهذا التعبير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:
أولها:ان الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ؛ولذلك عبر بقوله تعالى:{ فلما أحس عيسى منهم الكفر}فنسب الكفر إليهم ،وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة ،والمؤمنون هم القلة المغمورة ، حتى بحث عنهم السيد المسيح عليه السلام بقوله:من أنصاري إلى الله تعالى .
المعنى الثاني:الذي يشير إليه النص الكريم:ان السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودا بالأذى ،وان الدعوة الحق أصبحت مهاجمته من تلك الكثرة الساحقة ؛ولذلك طلب ان يكون له نصراء يجعلون للحق منعة وقوة من جهة ،ويكونون مدرسة الدعاية له ،والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى .
المعنى الثالث:الذي يشير إليه النص:هو ان النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله تعالى ،والاتجاه إليه ،وتفويض الأمور إليه ،فإنهم عن كانوا قليلا فهم بمعونة الله كثيرون{ ولينصرن الله من ينصره عن الله لقوي عزيز40}[ الحج] ولذلك كان في سؤال السيد المسيح عليه السلام إضافة النصراء إلى الله ،فقال:{ من أنصاري إلى الله}وقد قال في ذلك الزمخشري:"إلى الله من صلة أنصاري مضمنا معنى الإضافة ،كأنه قيل:من الذين يضيفون انفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني ،او يتعلق بمحذوف حالا من الياء ،أي من أنصاري ذاهبا إلى الله او ملتجأ"والأوضح في نظري ان يكون المحذوف حالا من الأنصار انفسهم أي من أنصاري حالة كونهم متجهين ملتجئين على الله تعالى ،وفي هذا طمأنة لهم بان نصرته هي نصرة الله ،وان الذين ينصرونه يلتجئون إلى جانب الله تعالى ،يعتمدون عليه ،فهم إذا كانوا للحق منعة ،في عزة من الله ومنعة منه ، وغن دعوة الحق لا بد ان تجد نصيرا وإن طغى الباطل واشتد ؛ولذلك أجيب عيسى عليه السلام من المخلصين من قومه:
{ قال الحواريون نحن أنصار الله}الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام الذين اخلصوا له ولازموه ،وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده .واصل مادة ( حور ):هي شدة البياض ،او الخاص من البياض ،ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق:الحواري ، وعلى النساء البيض:الحواريات ،والحوريات ؛وعلى ذلك يكون تسمية صفوة الرجل وخاصته حواري ؛لأنهم اخلصوا له ،ولنهم لباب الناس بالنسبة له ،وكذلك كان حواريو عيسى عليه السلام ؛ فقد كانوا خاصته ،والذين صفت نفوسهم ،وخلصت من أدران الدنيا وأهوائها كما يخلص الثوب البيض الناصع البياض من كل ما يشوبه .
أجاب أولئك الحواريون عيسى عليه السلام عندما اخذ يبحث عن النصراء{ نحن أنصار الله}وهم بذلك بينوا اهتداءهم لأمرين:
أولهما:انهم علموا انه يتكلم عن الله تعالى وانه رسول أمين ؛ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله ،وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ؛ولذا قالوا:نحن أنصار الله ،ولم يقولوا نحن أنصارك .
الأمر الثاني:انهم فهموا ان نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى ،وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى ،حتى تكون خالصة لله تعالى ،ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى:{ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون}فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام ؛قالوا{ آمنا بالله}أي آمنا بأنه الواحد الحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ،ولم يكن له كفوا احد ،وانه خلق الأشياء بإرادته المختارة ،وبقدرته الفعالة ،ولم توجد عنه الأشياء وجود المعلول عن العلة ،والمسبب عن السبب ،كما كان يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم ،وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى ،وإخلاص نياتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم:{ واشهد بانا مسلمون} .الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة ،فهم يطلبون من سيدنا عيسى ان يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد اسلموا وجوههم لله رب العالمين ،وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى ،وغن ذلك فوق انه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم .