أسلوب نابض بالمحبة:
...واستمر عيسى ( ع ) في دعوته إلى اللّه بأسلوبه الوديع النابض بالمحبة ،من أجل أن يقودهم في رحلة الإيمان إلى اللّه في العقيدة والشريعة ،ليعيشوا قصة الإيمان فكرةً وشعوراً وممارسةً ...ولكنَّهم أغلقوا آذانهم عن الاستماع إليه ،وأغمضوا أعينهم عن النظر إلى عجائب معجزات اللّه على يديه ،وعطّلوا عقولهم عن التفكير في ما يدعوهم إليه من خير الدنيا والآخرة ،لأنَّ القضية الأساس عندهم هي أنّهم يرفضون الإيمان ،كموقف سلبي ضدّ الرسول ،عبر قرار للكفر بالرسالة .
[ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ] وذلك من خلال طريقتهم في التعامل معه ،في محاولة الضغط عليه بمختلف الوسائل التي يملكونها ،ورفضهم الاستجابة له ،وإعراضهم عن الانفتاح على دعوة الإيمان في دعوته ،فلم يدخلوا في حوار معه ،ولم ينفتحوا على آفاق رسالته ؛بل أصمّوا أسماعهم عن كلّ نداء للداعية ،فما كان منه إلاَّ أن أخذ زمام المبادرة في تحويل الموقف إلى خطّ جديد للحركة الفاعلة من موقع التحدّي الذي يُعلن عن نفسه في ابتداء المسيرة نحو اللّه .
طريق طويلة شاقة:
ودرس عيسى ( ع ) الموقف ،وأدرك طبيعته من خلال نوعيّة القرار ،وعرف أنَّ القضية ميؤوس منها ،ما عدا الطليعة المؤمنة الواعية من حواريّيه الذين استجابوا لدعوته وأقبلوا على ندائه ؛فأطلق الدعوة في شكل نداءٍ يوجهه إلى الجميع ،وهو يعرف من الذي يستجيب له ،ليتميّز المؤمنون من الكافرين ،ولتتمّ عمليّة الفرز على أساس طبيعة الموقف: [ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّه] .إنَّ الرحلة طويلة معقّدة شاقة ،ولا بُدَّ للسائرين فيها من طاقةٍ إيمانية عظيمة ،تثبت أمام الشدائد والأهوال ،وتصمد أمام التحدّيات ،وتواجه العقبات بعزم وصبر وإيمان ...لأنَّ المعركة قد تسلب من الإنسان أمنه وثروته وراحته ،وربَّما تسلب منه حياته في بداية الشوط أو نهايته ،والمطلوب أن لا تسلبه إيمانه حتّى يواجه به العقبات بعزم وصبر .
وكان الفرز الإيماني جاهزاً في الساحة ،فها هم الحواريون الذين فتحوا قلوبهم للرسول ،وعاشوا حركة رسالته في روحانية وفكر ومعاناة ،وأدركوا ما ينتظرهم من نعيم الآخرة ورضوان اللّه أمام ما ينتظرهم من عقبات وشدائد وأهوال ...استجابوا في كلمات حاسمة تهزّ الساحة بالعزم والتصميم والإرادة: [ قالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه] الذين يعرفون طبيعة التحدّي وخطورة الموقف ودرجة التضحية ،فهي بحاجة إلى العقل والحركة والوعي والإرادة القوية .
أنصار اللّه:
....ويُتابعون الحديث عن منطلقات هذه النصرة ...فهم قد آمنوا باللّه ...[ آمَنَّا بِاللّه] والإيمان يعني التسليم ،والتسليم يعني التصميم والقناعة واليقين في الخطّ الذي يبدأ من اللّه وينتهي إليه ،لأنَّ الإيمان هو موقف للحياة يستوعب كلّ التفاصيل من خلال ما يواجهه الإنسان من أوضاع ،وما يقوم به من أعمال ،وما يرتبط به من علاقات ،وما ينطلق فيه من تطلّعات للمستقبل ...ليكون الخطّ الفاصل بين الإيمان والكفر فاصلاً على مستوى الممارسة لا على مستوى النظرية والكلمة .وبهذه الروح ،وفي أجواء هذا التصوّر ،كانوا يريدون التأكيد الحي لموقفهم الصلب بشهادة الرسول لهم بإسلام الكلمة والقلب والعمل للّه الواحد ،في ما يريد وما لا يريد: [ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] وهذه الشهادة تعطي للموقف بُعداً مهماً على صعيد حركة الإسلام في داخل النفس ،فإنَّ الفكرة قد تضعف إذا بقيت مجرّد فكر وشعور ،ولكنَّها تشتدّ كلّما تحوّلت إلى معاناة في الروح وإعلانٍ في حركة الإنسان في الحياة ،لأنَّ الموقف يتخذ لنفسه معنى المسؤولية المتحركة أمام اللّه والنّاس ،من خلال الإيحاء بإلزامه بما التزم به .وربَّما كان هذا هو السرّ في أنَّ إعلان الشهادة من قِبَل المسلم يعتبر عنصراً أساسياً في إسلام المسلم ،فلا يكتفي بما يربط قلبه عليه من عقيدة وإيمان ...
ولم يقف الحواريون عند هذا الحدّ في التعبير عن إسلامهم وإيمانهم ،فهم يعرفون أنَّ الرسول بشر يوحى إليه من اللّه ،وأنَّ اللّه هو الذي تقدّم إليه الشهادة للتعبير عن عمق الإخلاص في العقيدة والعبادة ،وأنَّ الشهادة للرسول لا تمثّل إلاّ الإعلان له بأنَّه ليس وحده في الساحة ،وليس وحده في المعركة ،وأنَّ صوته لم يذهب في الفراغ ،كما تذهب الأصوات الضائعة في أجواء الجحود والكفران ...فهناك المؤمنون الذين يتقدّمون معه في خطّ الجهاد والدعوة إلى اللّه ،وهناك أصواتهم الهادرة التي تُشهد الرسول بإسلامها ،ليسمع الجاحدون كيف تحوّل الإيمان إلى قوّة لا تخاف من الإعلان عن مواقفها المضادّة لقوّة الكفر .إنَّهم يُشهدون الرسول ،ولكنَّهم في نهاية المطاف يقفون بين يدي اللّه الواحد الذي آمنوا به ،وآمنوا برسوله من خلال الإيمان به ،وأسلموا له على أساس خطّ الإيمان الفاعل في الحياة ،ليعبّروا له عن هذا الإيمان العميق الممتدّ في وجدانهم وفكرهم ،وعن خطواتهم العملية التي تحرّك الإيمان من خلالها إلى حركةٍ واعيةٍ تتمثّل في اتّباع الرسول ...وليستلهموا منه القوّة على مواجهة التحدّيات لئلا يضعفوا أمام نقاط الضعف التي تواجههم في الداخل والخارج ؛فإنَّ الشعور بحضور اللّه في حياة الإيمان ،من خلال المناجاة الذاتية التي يقدّمها المؤمن للّه ،يمنح المؤمن شعوراً بالرضى والطمأنينة والقوّة الواثقة بربِّها وبنفسها ...في الصعب من مواقف الحياة .