{ * فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين * ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين * إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين * ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم *}
قال الأستاذ الإمام:انتقل من البشارة بعيسى إلى ذكر خبره مع قومه وطوى ما بينهما من خبر ولادته ونشأته وبعثته مؤيدا الآيات وهذا من إيجاز القرآن الذي انفرد به .فقد انطوى تحت قوله:{ فلما أحس عيسى منهم الكفر} جميع مادلت عليه البشارة وهم بنو إسرائيل الكفر والمقاومة والقصد بالإيذاء وفي هذا من العبرة والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ما فيه وأن أكبر ما فيه الإعلام بأن الآيات الكونية وإن كثرت وعظمت ليست ملزمة بالإيمان ولا مفضية إليه حتما ، وإنما يكون الإيمان باستعداد المدعو إليه وحسن بيان الداعي .ولذلك كان من أمر عيسى عليه السلام أنه لما أحس من قومه الكفر{ قال من أنصاري إلى الله} أي توجه إلى البحث عن أهل الاستعداد الذين ينصرونه في دعوته تاركين لأجلها كل ما يشغل عنها منخلعين عما كانوا فيه متحيزين ومنزوين إل الله منصرفين إلى تأييد رسوله ونصره على خاذليه والكافرين بما جاء به{ قال الحواريون نحن أنصار الله} أي أنصار دينه .وهذا القول يفيد الانخلاع والانفصال من التقاليد السابقة ، والأخذ بالتعليم الجديد .وبذل منتهى الاستطاعة في تأييده ، فإن نصر الله لا يكون إلا بذلك .
والحواريون أنصار المسيح .والنصر لا يستلزم القتال فالعمل بالدين والدعوة إليه نصر له .قال الأستاذ الإمام:ولا نتكلم في عددهم لأن القرآن لم يعينه .أقول ولعل لفظ الحواري مأخوذ من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه لأنه من خيار القوم وصفوتهم ، أو من الحور وهو البياض ، وفي حديث الصحيحين"لكل نبي حواري وحواري الزبير "{[309]} ومن هنا قيل خاص بأنصار الأنبياء .
{ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون} مخلصون له منقادون لأمره وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلفوا في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن"أحس "يستعمل في إدراك الحسي والمعنوي ففي حقيقة الإحساس:أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر وما أحسسنا منه خبرا وهل تحس من فلان بخبر ؟ والمكر من الأمور المعنوية وإن كان يستنبط من الأعمال الحسية ويستدل عليه بها .وقال البيضاوي في الآية"تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدركه بالحواس "وهو مبني على أن معنى أحس الشيء أدركه بإحدى حواسه وأن إطلاقه على إدراك الأمور المعنوية مجاز شبه فيه معقول بالمحسوس في الجلاء والوصول إلى درجة اليقين .على أن الكفر يعرف بالأقوال والأعمال المحسوسة .وقال الأستاذ الإمام:إن الجار في"إلى الله "متعلق بلفظ"أنصاري "وإن لم يعرف أن مادة نصر تعدى بإلى .ذلك بأن مجموع الكلام هنا قد أشرب الكلمة معنى اللجأ والانضمام ، لأن النصر يحصل بذلك .ويصح أن يتعلق بوصف يفيد المفسرون محافظة على القواعد الموضوعة .