{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون59 الحق من ربك فلا تكن من الممترين60فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين61 عن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم62 فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين63}
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى كيف كان الحمل بعيسى ،وما أجراه الله تعالى على يديه من معجزات ،وكيف كان عبدا من عباده الصالحين ،وذكر دعوته على ربه ،ومعاداة قومه له ،وتقدم الحواريين ليكونوا أنصاره إلى الله ،وكيف مكر القوم به وأحبط الله مكرهم ،ثم توفاه سبحانه ،ورفعه غليه ،وجعل فوقية للذين اتبعوه في هدايته ،فآمنوا بوحدانية الله وبرسالته ،وليس منهم قطعا أولئك الذين قالوا إنا نصارى وادعوا ألوهيته ،او انه ابن الله ،تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
وإنه في هذه الآيات يبين الله سبحانه وتعالى حقيقة تكوين عيسى ،ويزيل وجه الغرابة في ولادته ، وان الله تعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات ؛لأنه خالق كل شئ ،وهو الفاعل المختار ،يخلق الأشياء بإرادته واختياره ،ولا تصدر عنه المخلوقات صدور المعلول عن علته ،كما يتوهم الماديون الذين عاصروا عيسى عليه السلام ،والذين يعاصروننا اليوم ،وغن الله سبحانه كما خلق الإنسان الأول آدم من غير أب ولا ام ،فكذلك خلق عيسى من غير أب ،وهو سبحانه ذو القوة المتين .
ولقد بين سبحانه هذه الحقيقة بقوله:
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب}يبين الله بهذا النص الكريم مكان خلق عيسى عليه السلام من قدرته سبحانه وتعالى ،بجوار خلق آدم من تراب ؛فالله سبحانه وتعالى خلق آدم من تراب ،أي من غير أب ولا ام ،ومن مادة ليس من شانها ان يكون منها إنسان حي ينطق ويتكلم ،وقد تعلم الأسماء والأشياء كلها ؛ومعنى النص الكريم:إن حال عيسى في تصويره وتكوينه من غير أب بالنسبة لقدرة الله تعالى كحال آدم صوره وكونه من طين .
وفي هذا التمثيل احتجاج على النصارى الذين الهوا المسيح عيسى ابن مريم لأنه خلق من غير أب ،واعتبروه ابن الله والاحتجاج من وجهين:
أولهما:أنه إذا كان خلق عيسى من غير أب مسوغا في زعمهم لن يكون إلها او ابن إله ،فأولى بذلك ثم أولى آدم ؛لأنه خلق من غير أب ولا ام ،ولا أحد من الناس ادعى ألوهية آدم لهذا السبب فيبطل حينئذ ذلك الزعم الباطل لانهيار الأساس الذي قام عليه .
ثانيهما:ان الله سبحانه وتعالى إذا كان قادرا على خلق إنسان حي من غير أب ولا ام ،ومن مادة ليس من شأنها ان يتكون منها إنسان حي ،فأولى ان يكون قادرا على خلق إنسان من غير أب ،ومن ام هي إنسان يلد ويحيا ويموت ،وهي وعاء لحياة الإنسان وهو جنين ؛وإذا فلا غرابة في خلق عيسى من غير أب ،وما كان يصح ان يكون هذا دافعا لهذا الضلال المبين .
والنص الكريم فوق ما تضمنته من حجة دامغة تقطع دعوى المبطلين ،وهو بيان لقدرة الله تعالى العلي القدير في خلق الأحياء وخلق الأشياء ،من حيث إنها تخلق بإرادته المختارة ،وانه بهذه الإرادة يخلق الحي من غير الحي ،ويخلق الحي على غير النظام الجاري في مجرى العادات ،وما نسميه طبائع الأشياء في التكوين والتوالد ،ولا تصدر عنه الأشياء كما يصدر المعلول عن علته ، وإلا ما كان من الطين إنسان حي ناطق هو ابو الخليقة آدم عليه السلام .ولذا بين سبحانه بعد ذلك عظم إرادة الله تعالى في خلق آدم:
{ ثم قال له كن فيكون}هذا تصوير لخلق الله تعالى آدم من تراب ،أراد سبحانه وتعالى ان يكون فصوره من طين ،ثم قال له لما صوره آمرا له امرا تكوينيا"كن"فكان .وهذه الجملة السامية تصور خلق الله سبحانه وتعالى للأشياء الأحياء وغير الأحياء ،فليست إلا ان تتجه الإرادة إلى تكوينها ، فيكون المر التكويني ،وتكون الاستجابة التكوينية ،ويكون الأمر كما أراد سبحانه .وقال سبحانه وتعالى بالنسبة لخلق آدم عليه السلام:{ كن فيكون}ولم يقل كن فكان ،وهو المناسب للماضي ،وذلك لن التعبير بالمضارع دائما فيه تصوير وإحضار للصورة الواقعة كما وقعت ،ومن جهة أخرى فصيغة المضارع في هذا المقام تنبئ عما كان ،وتومئ إلى ما يكون بالنسبة لخلق الله تعالى المستمر في المستقبل كما كان في الماضي .