{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين} .
أقول:بعد أن بين سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات وما كان من أمر قومه في الإيمان والكفر به كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة والمحاجين فيه بغير علم ، ورد على المنكرين لذلك فقال:{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم} أي إن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك ، ثم فسر هذا المثل بقوله:{ خلقه من تراب} أي قدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا ذا لزوجة{ ثم قال له كن فيكون} أي ثم كونه تكوينا آخر بنفخ الروح فيه .وقد تقدم تفسير العبارة إلا انه كان الظاهر ان يقول هنا:ثم قال له:كن فيكون:ولكنه قال"فيكون "لتصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني في وضع المضارع موضع الماضي أحيانا .
وخطر لي الآن أنه يجوز ان تكون كلمة التكوين مجموع"كن فيكون "والمعنى:ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا .ويظهر هذا في مثل قوله تعالى:{ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق}
[ الأنعام:73] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا .لأن قول التكليف من صفة الكلام ، وقول التكوين من صفة المشيئة .ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا .
والعطف بثم لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول .وهل كان في هذه المدة على صفة واحدة أم تقلب في أطوار مختلفة كما تتقلب ذريته ؟ اقرأ قوله تعالى:{ وقد خلقكم أطوارا} [ نوح:14] وقوله عز وجل:{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} [ المؤمنون:1216] .
فالسلالة المستخرجة من الطين هي المكون الأول الذي يعبرون عنه بلسان العلم الآن بالبروتوبلاسما ومنها تكون أصلنا في ذلك الطور ، لأنه تعالى يقول إنه خلقه من تلك السلالة ، ثم انتقل إلى طور التولد بواسطة النطفة في القرار المكين وهو الرحم ، ثم انتقل إلى طور تحول النطفة على علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة إلى هيكل من العظام يكسى لحما وقد عد هذا طورا واحدا ، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الطور الأخير .ثم ذكر أن له طورا آخر في الموت وطورا آخر في البعث وهو آخر أطواره فكل طور من الأطوار التي قبل الموت حادث وحدوثه لأول مرة لم يكن مسبوقا بنظير ولم يكن معتادا وإنما وجد بمشيئة الله وتكوينه المعبر عنه بقوله: "كن فيكون "فهل يعز على صاحب هذه المشيئة أن يخلق عيسى من غير أب ؟ كلا .ولا يعجزه ان يبعث الناس بعد موتهم في نشأة أخرى كالنشأة الأولى .
وقال الأستاذ الإمام ما مثاله:قلنا إن هذه الآيات سيقت في معرض إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ببيان أن الله تعالى يصطفي من عباده من يشاء لرسالته وأنه مستقل في أفعاله فلا وجه لإنكار اصطفائه محمدا وقد اصطفى قبله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران .ثم جاء في السياق ذكر قصة عيسى وأمه وما جاء به وما كان من كفر بعض قومه به ورمي أمه بالزنا ، وإيمان بعض ، وهناك قسم ثالث لم يكفر بعيسى ولم يؤمن به إيمانا صحيحا بل افتتن به افتتانا لكونه ولد من غير أب وزعموا أن معنى كونه ولد بكلمة من الله وكونه من روح الله أن الله تعالى حل في أمه وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إلها وإنسانا .فضرب للكافرين وللمفتونين مثل خلق آدم من تراب وهو حجة على الفريقين من اليهود والنصارى ولا شك أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى لأن هذا خلق من حيوان من نوعه وذاك قد خلق من التراب ، وفي الكلام إرشاد إلى أن أمر الخليقة يشبه بعضه بعضا فكله غريب بالنسبة إلينا إذا تفكرنا في حقيقتها وعللها ولا شيء منه بغريب عند الموجد المبدع .
أما القوانين المعروفة في علم الخليقة فهي قد استخرجت ما نعهده ونشاهده وليست قوانين عقلية قامت البراهين على استحالة ما عداها كيف وأننا نرى في كل يوم ما يخالفها كالحيوانات التي لها أعضاء زائدة والتي تولد من غير جنسها ، وترون ذكر ذلك في الجرائد ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة ، وهو إنما خالف ما نعرف لا ما يعلم الله تعالى .وما يدرينا أن لكل هذه الشواذ والفلتات سننا مطردة محكمة لم تظهر لنا .وكذلك شأن خلق عيسى فكونه على غير المعهود ليس مزية تقتضي تفضيله عليهم .فكيف تقتضي أن يكون إلها ؟ وإذا كان عيسى قد خلق من بعض جنسه فآدم قد خلق من غير جنسه ، فهو أولى بالمزية لو كانت وبالإنكار إن صح ، على أن ما نعرف من أمر الخلقية ليس لنا منه إلا الظاهر ، نصفه ونقول به وإن لم نعقله ، وماذا نعقل من الرابطة بين الحس والنطق في الإنسان مثلا ؟ بل ماذا نعقل من أمر حبة الحنطة في نبتها واستوائها على سوقها وتناسب أوراقها وغير ذلك ؟