{ وقالت طائفة من اهل الكتاب آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون72 ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم73 يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم74*}
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة ان اهل الكتاب يودون ان يضل المؤمنون ،ويعملون على إضلالهم ،وكلما أمعنوا في هذا الطريق ازدادوا ضلالا ،وما ازداد المؤمنون إلا إيمانا ،وإن وجدوا في ضعاف الإيمان ما يشبع نهمتهم وقتيا فإنهم سرعان ما يقوي إيمانهم بالحق ،ويرتد أولئك المضلون في طغيانهم يعمهون .
وفي هذه الآيات يبين سبحانه طريق طائفة منهم في إضلال المؤمنين ،وإثارة الشك في قلوب ضعاف المؤمنين ،وهي ان يظهروا الإيمان والإذعان والاطمئنان إلى الحقائق الإسلامية ،ليظن فيهم الظن الحسن من لم يعرف مكرهم وكيدهم ،حتى إذا اطمأن الناس إليهم أعلنوا كفرهم ،بعد مظهر الإيمان ليوهموا المؤمنين انهم كانوا مخلصين في إيمانهم طالبين الحق بهذا الإيمان ،فلما تبين لهم البطلان خرجوا ،فقد يخرج بهذا الخروج ضعاف الإيمان ،ويلقون بذلك بين المسلمين شكا عمليا .وقد حكى الله سبحانه وتعالى عمل هذه الطائفة الماكرة الخبيثة فقال عز من قائل:
{ وقالت طائفة من اهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروه آخره} أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة التابعي انه قال:"قال بعض أهل الكتاب لبعض:أعطوهم الرضا بدينهم اول النهار ،واكفروا آخره ،فإنه أجدر ان يصدقوكم ،ويعلموا أنكم قد رأيتم فيه ما تكرهونه ،وهو أجدر ان يرجعوا عن دينهم".واخرج ابن جرير أيضا عن السدى انه قال:"قالوا لبعضهم:ادخلوا في دين محمد أول النهار ،وقولوا:نشهد ان محمدا صادق ،فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا:إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا ،فسألناهم فحدثونا ان محمدا كاذب ،وانتم لستم على شئ ،وقد رجعنا إلى ديننا ،فهو اعجب إلينا من دينكم لعلهم يشكون ،فيقولون هؤلاء كانوا معنا اول النهار فما بالهم ؛فأخبر الله سبحانه وتعالى رسوله بذلك وروى انهم نفذوا قولهم عملا"والروايات في هذا كثيرة ،وكلها متلاقية في المعنى غير متنافرة .
وخلاصتها:ان أولئك المضللين الذين أكل الحسد قلوبهم دعا بعضهم ان يظهروا الإسلام ليبدوا طلاب حقيقة ،فإن رجعوا استطاعوا ان يجتذبوا معهم بعض ضعفاء الإيمان .
والمراد بوجه النهار ما يقابل آخره ،وهو اول النهار ،وعبر عنه بالوجه ؛لن اول النهار هو وقت إقباله ،والوجه هو مظهر الإقبال ،والوجه أيضا كناية عن الظهور ،وأول النهار هو وقت الظهور ووقت الوضح ،بعكس آخره .وهل معنى الاتفاق الذي اتفقوا عليه هو ان يبدءوا في الضحى فيسلموا ثم يكفروا في المساء ؟ظاهر اللفظ ذلك ،ولكن يبدو للمتأمل البصير انهم يريدون ان يسلموا حينا من الزمان حتى تتم الثقة بهم والاطمئنان إليهم ،ثم يكفروا من بعد ذلك ،على ألا يستغرق إظهارهم الإسلام إلا أمدا يستطيعون فيه جلب الثقة إليهم ؛ويكون حينئذ التعبير كله من قبيل الاستعارة التمثيلية ،سيقت لتصور حالهم التي اتفقوا عليها ،وهي انهم يظهرون الإيمان ثم يكفرون بعد أمد قصير .فالاستعارة لتصوير سرعة الرجوع وإظهار الكفر ،وتأكد التعاقب بين إظهار الكفر وإظهار الإسلام ،كما يتعاقب ظهور آخره بعد أوله .وقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم مقصدهم ومكرهم السيئ بقوله تعالت كلماته:
{ لعلهم يرجعون}فهذا التعبير يفيد بيان مقاصدهم وهو رجاء ان يرجع بعض المؤمنين إلى الكفر بعد الإيمان ،ولكنهم عبروا عن البعض باسم الكل ،فإنه لا يمكن ان يرجعوا جميعا ،بل الذي يرجى رجوعه من المسلمين هو الضعيف غير القوي في دينه ،غير المطمئن في يقينه ،ولكن كفر هذا الفريق بعد إيمان يحدث اضطرابا في جماعة المسلمين ،فيكون التظنن فيهم ،وحيث جرى الشك في الجماعة كان وراءه التفرق وفقد الثقة ،وكان وراءهما الفشل الذر يع ،وإنهم من بعد ذلك يطمعون ان تعود الجزيرة العربية إلى الشرك بعد هذا الإيمان الذي هددهم في كيانهم ؛وكذلك سولت لهم نفوسهم ،فإن الذي يركب رأسه الشيطان توسوس له نفسه بالشر ،ويتسع أفق تصوره حتى يتمنى الأماني البعيدة القاصية كأنها قريبة دانية .
وإن تلك الطريقة التي سلكوها من أقوى ما تفتق عنه التدبير الإبليسي ؛فإن إظهار الكفر بعد إظهار الإيمان مع التذرع بتلبيسات مضللة من شأنه ان يدخل الحقائق صدقا وأجدرها باليقين ؛ولذلك كانت عقوبة الردة التي ثبتت بقوله صلى الله عليه وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه"{[513]} .هي القتل ؛وذلك لقطع السبيل على الذين يدخلون في الإسلام ظاهرا ،وهم يريدون إثارة الشك حول حقائقه ،وليس في ذلك منافاة للحرية الدينية التي قررها الإسلام في قوله تعالى:{ لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي . . .256}[ البقرة]ولقد كان أولئك الذين اخذوا بذلك الطريق الخبيث لإفساد العقائد يظهرون في عصور الإسلام الوقت بعد الآخر ،وهم الزنادقة ، فهم كانوا في باطنهم كفارا يستترون بستار الإسلام ليفسدوا الأمر على اهل الإسلام ،ويشككوا الناس في عقائدهم .
وإن الفقهاء كانوا يحذرون الناس من سمومهم التي ينفثونها ،وقرر جمهورهم ان كل مرتد يستثاب إلا من عرف بالزندقة ،فإنه يتخذ التوبة ستارا ليستطيع بها الكيد للإسلام وأهله ،فيرد عليه في نحره ،وإن ظهر منه الكفر الذي يحاول ستره يؤخذ بالنواصي والأقدام .