ثم قال تعالى:{ وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} قال السيوطي في أسباب النزول روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال قال عبد الله بن الصيف وعدي بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض:تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فأنزل الله فيهم{ يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق الباطل} إلى قوله{ واسع عليم} أقول:وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال قال بعض أهل الكتاب لبعض: "أعطوهم الرضى بدينهم أول النهار واكفروا آخره فإنه أجدر أن يصدقوكم ويعلموا أنك قد رأيتم فيها ما تكرهون وهو أجدر أن يرجعوا عن دينهم .وأخرج أيضا عن السدي أنه قال فيها كان أحبار قرى عربية اثني عشر حبرا فقالوا لبعضهم ادخلوا في دين محمد أول النهار وقولوا نشهد أن محمدا حق صادق فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم فحدثونا أن محمدا كاذب وأنتم لستم على شيء وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينك لعلهم يشكون فيقولون هؤلاء كانوا معنا أول النهر فما بالهم ؟ "فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك .وروي أنهم فعلوا ذلك ولم يقفوا عند حد القول فقد أخرج ابن جرير عن مجاهد قال"يهود صلت مع محمد صلاة الصبح وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد بدت منه الضلالة بعد أن كانوا اتبعوه ".
وقال الأستاذ الإمام:هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه .وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الإسلام"هل يرجع عنه من دخل في دينه ؟ فقال أبو سفيان:لا "وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا لولا أن أظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه ، واطلعوا على باطنه وخوافيه ، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته ، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب .
فإن قيل:إن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ومكيدة ، كما كاد هؤلاء ، فماذا تقول في هؤلاء ؟ والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى ، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له لا لاعتقاده أنه حق في نفسه ، فإذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فإنه يترك ذلك الشيء ، ويظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه ، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين ، فإنها قد تخدع الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم .وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له فيما رأى .وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي والله أعلم .