{ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} في هذا النص السامي بيان عظمة البيت الحرام ، ومكانته والأدلة على قدمه وبركته ؛ ومعنى النص الكريم:
فيه علامات واضحة تبين شرف منزلته وقدمه وطهارته ، وفيض الله سبحانه وتعالى عليه بالنور وأسباب الهداية ، وانه لا بيت يدانيه في منزلته عند الله ، وإن كان هذا البيت الآخر تشد إليه الرحال{[530]} . وقد قالوا إن قوله تعالى:{ مقام إبراهيم}بيان لهذه الآيات البينات ، ويصح ان نعتبرها وحدها بيان هذه الآيات من حيث الدلالة على قدمه ، وان بانيه إبراهيم ، وان آثار أقدامه واضحة خالدة فيه ، وقد وضح هذا المعنى الزمخشري أتم توضيح فقال:
( فإن قلت كيف صح بيان الجماعة بالواحد ؟قلت فيه وجهان ؛ أحدهما:ان يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة ، لظهور شانه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام ، ومن تأثير قدمه في حجر صلد . . والثاني:اشتماله على آيات كثيرة ؛ لن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر الأنبياء آية ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملا حدة ألوف السنين آية ) .
وهذا الكلام على اعتبار أن مقام إبراهيم هو موضع الآيات البينات ولكن الذي نراه وقد ذكره الزمخشري أيضا ان هذه الآيات البينات ليست مقام إبراهيم وحده ،ولكنها مقام إبراهيم وكونه امن الناس ومثابتهم ، وكونه المكان الذي يحج إليه المسلمون إلى اليوم ، وكان العرب يحجون إليه ويقومون بكثير من المناسك ، وإن خالطوها بشرك .
ولقد ذكر سبحانه الآية الثانية البينة لمقام البيت عند الله تعالى وهند العالمين بقوله:
{ ومن دخله مكان آمنا} أي آمنا من الأذى والقتل . وهذه آية لا شك فيها ، فالعرب كانوا يحترمونه كما نوهنا ، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليهم ، وبقيت حتى في شركهم ؛ ولذا يقول سبحانه:
{ أولم يروا انا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم . . .67}[ العنكبوت] . وانعم عليهم سبحانه بأن حماه من كل من يغير عليه معتديا . حتى إن أبرهة عندما أغار بجيشه وأفياله ليهدمه ،ارتد خاسئا كما قال تعالى:
{ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل1 ألم يجعل كيدهم في تضليل2 وأرسل عليهم طيرا أبابيل3 ترميهم بحجارة من سجيل4 فجعلهم كعصف مأكول5}[ الفيل] .
وتلك آية من آيات الله الكبرى في البيت .
ولقد حماه الله سبحانه وتعالى في الإسلام ،حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة احترم أمنها فكان مناديه ينادي:من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل البيت الحرام فهو آمن{[531]} ووصف يوم الفتح بقوله:"هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة"{[532]} .
{ ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} هذه آية لتعظيم الله سبحانه وتعالى شان بيته المقدس ، وحرمه الآمن إلى يوم القيامة ، وذلك انه سبحانه فرض الحج إليه على من يستطيع ، وجعله موضع المؤتمر الإسلامي الكبر ، كما قال تعالى:{ وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق27}[ الحج] .
والحج بالمعنى الشرعي هو القصد إلى أداء المناسك ونية العبادة به ، وهو في أصل معناه اللغوي القصد المجرد إلى مكان معين ، وتقرأ كلمة"حج"بفتح الحاء ، وهي لغة اهل الحجاز وبها قرأ أكثر القراء ، وبكسر الحاء وبها قرأ الكسائي وحفص{[533]} .
وقوله تعالى:{ من استطاع إليه سبيلا} . بدل من{ الناس} ، فالفرضية العينية منصبة على من يستطيع دون غيره ولكن تصدير الكلام بإضافة الفرضية إلى الناس ، ثم البدل منهم بالمستطيعين يدل على ان عامة المسلمين عليه فرضية عامة ، وإن لم تكن كفرضية المستطيعين ، وهذه الفرضية نفسرها بأمرين .
أولهما:بالتكليف العام الذي يدخل في عموم فروض الكفاية ، بمعنى ان عامة المؤمنين عليهم ان يسهلوا تلك الفريضة على من يريدها ويستطيعها ، ويبتغي بها مرضاة الله تعالى ؛ فعلى ولى المر الذي يمثل جماعة المؤمنين ان يسهل هذه الفريضة لطلابها ؛ وعلى جماعة المؤمنين ان يعملوا على إقامتها كل في طاقته وفي حدود قدرته .
وثانيهما:ما يقرره الفقهاء من أصل الوجوب ثابت ما دام الشخص مكلفا ؛ ولكن وجوب الداء هو الذي يشترط فيه الاستطاعة . فمن لا يستطيع هذا العام قد يستطيع في قابل وهكذا .
والاستطاعة التي توجب فرضية الداء هي الحد الأدنى من الاستطاعة ، ولذلك قال النص الكريم:{ من استطاع إليه سبيلا} .
أي استطاع بأي سبيل للوصول إلى الحج ، فليست الاستطاعة الموجبة للحج هي الاستطاعة الواسعة المعنى التي لا تكون إلا للأغنياء ، ولذا فسرها الفقهاء بالقدرة البدنية ، والقدرة على الزاد والراحلة أي ما يمكن ان يصل به ؛ ولابد ان يكون ذلك فاضلا عن حاجاته الأصلية وعمن يقوتهم ، فإن ترك من يقوتهم بلا مال إثم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام:"كفى بالمرء إثما ان يضيع من يقوت"{[534]} . والفرض لا يؤدي بالإثم . ومن استطاعة المرأة ألا تكون ذات أطفال صغار يخشى عليهم الضيعة إن تركت حضانتهم ولا حاضن لهم سواها ، كما ان من استطاعتها ان يكون معها زوجها او ذو رحم محرم منها .
والحج عند الأكثرين فرض على التراخي ، ولكن المالكية يقررون انه لا يسع من تجاوز الستين ان يؤخر عن قدرة ، وغن كان أصل التراخي ثابتا لصريح الآثار الواردة في ذلك ، والحج فرض مرة واحدة في العمر ، والحج هو مؤتمر الإسلام الأكبر ، وقد بيناه مرارا .
{ ومن يكفر فإن الله غني عن العالمين} في معنى هذا النص اتجاهان ؛ أحدهما:أن يكون الكلام في تارك الحج ويكون المعنى من ترك الحج جاحدا له منكرا لفرضيته فقد كفر وأضاع مصلحة نفسه ومصلحة أمته بالإجماع في المؤتمر الأكبر ؛ والله سبحانه غني عن العالمين أي عن الناس أجمعين .فهم محتاجون إليه ، وهو غير محتاج إليهم .
والاتجاه الثاني:ان يكون الكلام متجها إلى اليهود الذين أنكروا فضل البيت وقدمه وبناء إبراهيم له . ويكون المعنى:من أنكر تلك الحقيقة الثابتة وجحدها بعد البينات فقد اركس{[535]} نفسه والله سبحانه غني عن العالمين .
اللهم اهدنا إلى الحق ووفقنا للإيمان به .