{ قل يا اهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون98 قل يا اهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وانتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون99 يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين100 وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم101}
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى شرف البيت ، وانه اول بيت بني للعبادة ، وضعه إبراهيم عليه السلام ، وان على كل مؤمن ان يحج إليه ، وكان ذلك في مساق الرد على اليهود الذين أنكروا فضل البيت الحرام ، وادعوا ان بيت المقدس أقدم منه عبادة ، فبين سبحانه انه اول بيت وضع للناس ، وقد ذكر سبحانه وتعالى ان هؤلاء اليهود كانوا يحاولون دائما تضليل المؤمنين ، وما كانت مجادلتهم هذه لنهم يتشككون ، بل لنهم لا يذعنون للحق بعد غذ عرفوه ، ويريدون ان يكون الناس جميعا على طريقتهم العوجاء ، وعلى ما هم عليه ؛ لنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، ولقد أثاروا كثيرا من الشك في مجادلاتهم ليوهنوا امر العقيدة في قلوب المؤمنين ، فلم يجدوا بين المؤمنين آذانا مصغية ، ولا قلوبا مفتوحة لظلامهم ، بعد ان أشرق فيها نور الحق ، فإنه لا يلتقي في قلب واحد نور الله وظلمات الباطل ، ولقد انتقلوا من التشكيك في العقيدة إلى إثارة الفتنة بين المؤمنين ، لتعود العادات الجاهلية كما بدأت ، فإنه يروى ان رجلا يهوديا قد عتا في الجاهلية ، وكان شديد الضعن على المؤمنين-أراد ان يثير الفتنة بين الأوس والخزرج فأمر فتى بأن يجئ إليهم ، وينشدهم بعض الأشعار التي كانوا يقولونها في الجاهلية متفاخرين ، ففعل ، فتذاكروا يوم بعاث ، وهو يوم حرب من أيامهم في الجاهلية ، وتكلموا في ذلك فتنازعوا وهم الحيان ان يتقاتلا ، حتى جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم:"يا معشر المسلمين ، الله الله ، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد ان هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم امر الجاهلية ، واستنفذكم به من الكفر ، وألف بينكم ، أترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا ؟"{[536]} .
هذا فعل اليهود ، كفروا بالحق بعد ان جاءتهم البينات ، ولم يكتفوا بالكفر ، بل أخذوا يصدون ويمنعون عن الحق أو الاستقرار فيه غيرهم ؛ ولذا قال سبحانه:
{ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون} الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد امره سبحانه وتعالى ان يوبخهم على ما كان منهم ، وأمره ان يناديهم ب"أهل الكتاب"للمبالغة في التوبيخ والاستنكار ؛ لن علمهم بالكتاب كان يتقاضاهم الإيمان ، وان يذعنوا للحق ، فإنه لا يستوي من يعلم ومن يجهل ؛ فإن كانوا مع علمهم بأخبار النبوات يكفرون ، فهو دليل على فساد قلوبهم ، ويقول سبحانه:{ لم تكفرون بآيات الله} والآيات هنا هي الآيات القرآنية ، والكفر بها هو عدم الإذعان لأحكامها وإنكار صدقها ، ومنازعة اهل الحق في معانيها ، او نقول:آيات الله تعالى هي الأمارات التي ساقها الله سبحانه وتعالى لإثبات الحق في الرسالة المحمدية ، فهم لإيغالهم في الجحود والإنكار لا يكتفون بإنكار الحق ، بل ينكرون الدليل الذي قام عليه ، وثبت به ، وهم بذلك يغلقون قلوبهم ، فلا يصل إليها نور الحق ، وإذا كانوا ينكرون كل ذليل يصلهم بالهداية ، فقد سارعوا إلى الكفر ، وقوله تعالى:{ والله شهيد على ما تعملون} أي عالم علم المعاين الحاضر القائم الحاكم على ما يعملون دائما ، سواء أكان العمل عمل القلب أم كان العمل عمل الجوارح .
والإنكار في الآية الكريمة منصب على كفرهم مع هذه الحال ،والمعنى:يا أهل الكتاب الذين أوتوا علم النبوات لم تكفرون بالأدلة القائمة على صدق رسالته ، والحال ان الله تعالى شهيد عالم معاين حاكم قوام على ما تعملون من خير ومن شر ، فالنص السامي يتضمن توبيخا على الكفر ، وتهديدا بالعقاب الشديد على ما يعملون ، لأن الله تعالى إذا كان شهيدا على ما يفعلون ، وهو الحكم العدل القادر على الثواب والعقاب ، فإنه بلا ريب مجازيهم على فعلهم ، ومحاسبهم على مقاصدهم في أقوالهم وأفعالهم .