{ قل يا اهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وانتم شهداء}ذكرنا انهم لا يكتفون بكفرهم ، بل يبغون في غيرهم إبعاده عن الحق ، فيصدون عن سبيله ، وقد كرر سبحانه بالحق الذي أنكروه ، ويضع أيديهم على حالهم التي ألفوا فيها الباطل ، حتى غلقوا به أبواب الحق على أنفسهم وقوله تعالى:{ لم تصدون عن سبيل الله} معناه لم تصرفون الناس عن سبيل الله تعالى وهو سبيل النور وسبيل الحق ،فالصد هو الصرف والمنع ، والحيلولة بين الشخص والوصول إلى المر ؛ و"سبيل الله"هي السبيل التي وضحها وبينها سبحانه ، وهي الصراط المستقيم الذي يوصل إلى رضاه سبحانه ، وإذا كان أولئك يحاولون منع الناس من الطريق الذي رسمه العلي الكريم وحد حدوده فقد عاندوا إرادة الله وحادوه ، ومن يحاد الله تعالى فإنه مغلوب لا محالة ، وقد وصف سبحانه وتعالى حالهم في الصد عن سبيل الله فقال:{ تبغونها عوجا} أي ترغبون العوج لها ، أي تريدون ان تكون ملتوية غير واضحة ولا بينة في أعين المهتدين ، كما التوت نفوسكم ، وحالت عيونكم ، فلم تدرك الحق مستقيما بعد ان قامت بيناته ، او المراد تبغونها أي تطلبونها معوجة حائلة ، أي لا تتجهون في طلبها بقلب سليم ، فتكون معوجة لاعوجاجكم .
وقد قال الزمخشري في معنى هذه الجملة السامية:"فإن قلت:كيف تبغونها عوجا ، وهو محال ؟ قلت:فيه معنيان ؛ أحدهما:أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم ان فيها عوجا بقولكم:إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتعييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ، ونحو ذلك . والثاني:إنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم". وهذا الكلام في جملته قريب منه ما بيناه آنفا .
ومعنى قوله تعالى:{ وانتم شهداء} والحال أنكم شهداء عالمون بالحق علم من يعاين ويشاهد ويحكم بأنه الحق والصواب ، فهو جحود عن علم ، وكفر ليس عن جهل ، وإيغال في الكفر بالصد عن سبيل الله ، وبينات الحق بين أيديكم وأماراته معلنة له في أيديكم .
والاستنكار التوبيخي متجه إلى جملة حالهم ، ومعنى كلامه السامي سبحانه:لم تصرفون الناس عن طريق الحق ، وتبغون الاعوجاج ، أو توهمون الناس ان فيه عوجا والتواء ، والحال أنكم تشهدون بالحق الذي اشتمل عليه ، وتعلمه علم المعايش الذي يراه ويحسه ، ولقد أنذرهم سبحانه بعد ذلك بقوله تعالى:
{ وما الله بغافل عما تعلمون} هذا نفي مؤكد لإهمال الله تعالى عملهم ، وغفلته عنهم ومما يضمرون ويفعلون ، وقد تأكد النفي بالباء الزائدة التي تفيد توكيد النفي ، وكان ذلك النفي المؤكد لبيان عاقبة أعمالهم ، فإذا كان ما يفعلون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، فإنهم مجزيون به ،محاسبون عليه ، وهو من جنس ما صنعوا ، وما صنعوا بكفرهم وصرفهم الناس عن طريق الله تعالى ، وطريق الحق- إلا شرا ، وإلا خسارا يعود عليهم في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا يعود بالفشل والذلة ، وفي الآخرة عذاب الهون بما كانوا يكسبون .