ولقد حذر الله سبحانه المؤمنين مما يريدونه بهم .فقال سبحانه:
{ يا أيها الذين آمنوا عن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين} كان نزول هذه الآية وما وليها من آيات بعد تلك المحاولة التي حاولها الشيخ اليهودي في التفرقة بين الأوس والخزرج ، والتي هم الفريقان بسببها ان يتشاجرا بالسيوف لولا ان نبي الرحمة تداركهم قبل ان يفعلوا ، وأدركوا بكلمات الرسول أنها النزغة الشيطان ، فحذرهم الله تعالى هذه النزغة مرة أخرى ، وأمرهم بالحذر الشديد من اليهود خشية أن يكون فعلهم محاولة لما يريد أولئك الأشرار الذين ابتلى الله بهم البرية ، ومطاوعة لمقاصدهم الآثمة ، وصدر الخطاب بقوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا} تنبيها لخطر ما يدعوهم إليه ، ولتحريك عناصر الإيمان في قلوبهم ، فيكون منهم الحذر واليقظة ، فإن الإيمان فطنة{[537]} ، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين{[538]} ،ولأن علة الإجابة للطلب هي الإيمان ، وفي قوله تعالى:{ إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب} عبر في الشرط ب"إن"للإشارة إلى بعد وقوع الطاعة منهم لهؤلاء مع إيمانهم ، لأن"إن"الشرطية تفيد الشك في وقوع الشرط ، وبالتالي ترتب الجواب عليه ، بخلاف"إذا"فإنها تفيد وقوع الشرط أو تؤذن بوقوعه وترتب الجواب عليه ، كقوله تعالى:{ إذا السماء انشقت1}[ الانشقاق] وقوله تعالى:{ إذا السماء انفطرت1 وإذا الكواكب انتثرت 2}[ الانفطار] ، وقوله تعالى:{ وإذا الموءودة سئلت8 بأي ذنب قتلت9} [ التكوير] وذكر سبحانه وتعالى الذين يحاولون إركاس المسلمين في الفتنة وتضليلهم ، بأنهم فريق من الذين أوتوا الكتاب ؛ لأنهم لم يكونوا كلهم ، ولأنه يرجى الإيمان من بعضهم .بدل الاستمرار على الغي والفساد ؛ وأنهم أهل معرفة ، ولكنهم استخدموها للضلال والتضليل ، فصاروا بهذا كالأنعام بل أضل سبيلا ؛ لأن المعرفة إن لم تكن لنصرة الحق كان الجهل خيرا منها ؛ لأنه أدنى إلى المعذرة .
وقد رتب سبحانه على الطاعة المفروضة التي حذر سبحانه و تعالى منها نتيجتها إن وقعت ، ولا تقع من مؤمن بحمد الله تعالى فقال سبحانه:{ يردوكم بعد إيمانكم كافرين} وفي هذا يعبر سبحانه وتعالى بقوله:{ يردوكم} ولم يقل:{ ترتدوا} والمعنى متلاق ، ولكن الأول في بيان تسلط الكفار على قلوب أهل الإيمان في حال تلك الطاعة ، فهو نوع آخر من التحذير منهم ؛ لأنهم كالشياطين ، فعلى كل مؤمن أن يحذرهم .
أما الارتداد فإنه يكون انبعاثا من نفس المرتد ، بضلاله هو لا بتأثير من غيره .
وفي الجملة النص السامي الكريم سيق لتحذيرهم من ذلك العدو الذي اختلط بهم ، وأخذ ينفث سموم الشر ، وسموم التفرقة بينهم ، وأنهم يعودون إلى الكفر إذا استجابوا لدعوته ، ومكنوا لسمومه من أن تصل إلى قلوبهم ، ولقد بين سبحانه بعد ذلك أنه ما كان يسوغ لهم أن يستمعوا إلى دعوات الأعداء ، ويفتحوا الباب لتدبيرهم الخبيث ، ورسول الله فيهم فقال:{ وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله}:
الاستفهام هنا للتعجب أو للإنكار ، ومعنى التعجب فيه هو انه لا يتصور أن يكون منكم كفر ، ولو تصور لكان موضعا للعجب والاستغراب ؛ لأن آيات الله تتلى عليكم ، ورسوله بين ظهرانيكم ، ويردكم للحق إن زغتم ، وتهديكم آيات الله البينة إن ضللتم ، وهذا فيه ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب اليهود من ان يصلوا إلى ما يبتغون من إيجاد الفرقة والانقسام بأمر جاهلي ، وإما على اعتبار الاستفهام للإنكار فهو إما نفي للوقوع أي أنه لا يمكن ان يقع منكم الكفر ، و رسول الله بينكم ، وآيات الله تتلى عليكم ، وإما انه نفى للواقع ، فيكون للعتب ، بالاستماع إلى كلماتهم المفرقة ، فيكون الإنكار لما وقع باعتباره كان يؤدى إلى الكفر ، فيعودون إلى ما كانوا عليه في الجاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض ، فإذا كان الإنكار للواقع يكون الإنكار للسبب الذي وقع ويؤدى إلى السبب وهو الكفر ، لا أن الكفر قد وقع .
والإنكار او التعجب أساسه الحال التي هم عليها ، وهي كونهم في حضرة الرسول صلى اله عليه وسلم وهو يتلو عليهم الآيات ، فالمعنى كيف تكفرون أو يتصور منكم الكفر ، او يسوغ لكم أن تسيروا في أسبابه ، وآيات الله تتلى عليكم بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بلسان احد سواه ، ويقول الزمخشري في توضيح هذا:( تتلى عليكم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم غضة طرية ، وبين أظهركم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ) .