والخطاب في الآية:{ وكيف تكفرون وانتم تتلى عليكم آيات الله}- كما يبدو من عبارات الزمخشري وغيره-خاص بالمؤمنين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين شاهدوا النور المحمدي وشافهوا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وغن ساعة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم تغنى عن اجتهاد سنين ، كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه . ويصح ان يكون الخطاب لكل المؤمنين ، وتكون الآيات تتلى على لسان القراء والعلماء من بعده ، وهي ستتلى إلى يوم القيامة:{ إنا نحن نزلنا الذكر وغنا له لحافظون9}[ الحجر] وأما وجود الرسول في الأخلاف فإنه يكون بوجود سنته النبوية الشريفة ، وإنه إن كان الاحتياط يكون أشد- لا يخلو من فضل ثواب إن سلم القلب واهتدى العقل وتحصنت النفس ، وقد روى البخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوما:[ "أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟"قالوا:الملائكة ، فقال عليه الصلاة والسلام:"وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ !"قالوا:فنحن ؟"وكيف لا تؤمنون ، وأنا بين أظهركم ؟ !"قالوا:فأي الناس أعجب إيمانا ؟ قال:"قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها"] .
{ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} بعد ان بين سبحانه ما يحاوله اليهود وما يتمنوه وهو لان يضلوا المؤمنين كما قال تعالى:{ ودت طائفة من اهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا انفسهم وما يشعرون69} [ آل عمران] –أخذ يبين سبحانه طريق العصمة من مكايدهم ، ويغلق أبوا القلب حتى لا يتأثر بما يحاولون ان يفسدوه به ، فقال سبحانه:{ ومن يعتصم بالله} أصل الاعتصام معناه الامتناع والالتجاء والاستمساك ، وهو من عصم بمعنى منع ، يقال عصمه الطعام أي منع عنه الجوع ، وعصمته النبوة أي منعته من ان يقع في إثم قط ، ومعنى النص السامي:ومن يعتصم بالله أي يجعل الله تعالى عاصما له ومانعا ، يستنصح بكتابه ، ويلجأ إلى كلام رسوله إذا ادلهمت الظلمات ، فقد هدى إلى صراط مستقيم ، أي طريق مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف ، ومعنى الاعتصام بالله:الاعتصام بدين الله كما قال أكثر المفسرين ، وإني أرى الاعتصام بالله هو الاعتصام بذاته سبحانه ، وإن كان الاعتصام بالذات العلية يستلزم حتما الاعتصام بدينه الحق الخالد إلى يوم القيامة ، ولكني اخترت الاعتصام بالله ، وأن يكون الإسناد إلى ذاته سبحانه من غير تقدير مضاف ؛ لأن الاعتصام بالله يقتضي ألا يحب أحدا إلا الله ، ويقتضي ان يكون الشخص ربانيا لا ينظر إلى عصبية جاهلية ، ولا لهوى ولا لعرض من أعراض الدنيا ، فيلجأ إلى الله ، ويحب الشئ لذات الله كما ورد في الحديث الشريف:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشئ لا يحبه إلا لله تعالى"{[539]} ، ويقتضي ان يتجه إلى الله ويتذكر عندما ينزغ في النفس نازغ ، كما قال تعالى:{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله . . .36}[ فصلت] ، ويقتضي الاعتصام بالله أن يتوكل على الله حق توكله ، فيدبر الأمور ويعتزمها ثم يفوض أمر مصا يرها إليه سبحانه وتعالى ،ويقتضي الاعتصام بالله ان يبتعد عن مواطن الريب ، ولا يتبع الشبهات ، كما قال تعالى:{ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب7 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك انت الوهاب8}[ آل عمران] .
ذلك بعض مظاهر الاعتصام بالذات العلية ، ولذا نجد انه لا حاجة إلى تقدير مضاف هو لفظ دين ، وفوق ذلك فإن هذا التقدير لا يستقيم معه نسق القول في نظري ؛ لأن الصراط المستقيم هو دين الله القويم ، فكيف يكون دين الله هو الذي يهدي إلى دين الله ، إنما الذي يهدي إلى دين الله هو الاعتصام بذات الله العلية .
وقوله تعالى:{ فقد هدي إلى صراط مستقيم} عبر فيه بالماضي للإشارة إلى التحقق والتأكد والثبوت ، أي الجواب يترتب على الشرط لا محالة ، فإذا وجدت حقيقة الاعتصام بالله- وإنها لأجل حقائق هذا الوجود- فإنه يوجد لا محالة الاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الذي لا عوج فيه ولا أمت{[540]} .
اللهم اعصمنا من الزلل ، واهدنا فيمن هديت ، ووفقنا لما يرضيك يا رب العالمين .