قال الأستاذ الإمام:إن صح ما ورد في سبب نزول هذه الآية فالمراد بالكفر في قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) هو العداوة والبغضاء التي كان الكفر سببها ، كما أن المراد بالإيمان على هذا هو الألفة والمحبة التي هي ثمرة يانعة من ثمرات الإيمان .وإذا لم ننظر إلى ما ورد من السبب ، فالمعنى:أن أهل الكتاب قد سلكوا سبل التأويل في الكتاب ، فحرفوه ، وانصرفوا عن هدايته إلى تقاليد وضعوها لأنفسهم ، فإذا أطعمتوهم وسلكتم مسالكهم فإنكم تكفرون بعد إيمانكم .
أقول ويجوز أن يراد بالكفر على الوجه الأول:حقيقته ، كأنه يقول:إنكم إذا أصغيتم إلى ما يلقيه هؤلاء اليهود من مثيرات الفتن واستجبتم لما يدعونكم إليه فكنتم طائعين لهم فإنهم لا يقنعون منكم بالعود إلى ما كنتم عليه من العداوة والبغضاء ، بل يتجاوزون إلى ما وراء ذلك ، وهو أن يردوكم إلى الكفر .ويؤيد هذا قوله تعالى:( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا ، حسدا من عند أنفسهم ) [ لبقرة:109] الآية وقوله في هذه السورة:( ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) [ آل عمران:68] ولا يمنع الإنسان من إتيان ما يود إلا عجزه .وإذا كان هذا جائزا- وهو الظاهر على الوجه الأول- فهو متعين على الوجه الثاني .
أما اتصال الآية بما قبلها على هذا فظاهر جلي .فإنه بعد ما وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله ، وهو الإسلام ، إثر إقامة الحجج عليهم وإزالة شبهاتهم ناسب أن يخاطب المؤمنين مبينا لهم أن من كان هذا شأنهم في الكفر وهذا شأن ما دعوا إليه في ظهور حقيقته لا ينبغي أن يطاعوا ولا أن يسمع لهم قول:فإنهم دعاة الفتنة ورواد الكفر .ولذلك قال:{ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم}