دور تخريبي مكشوف:
أمّا في الآية الثانية ،فتبرز لنا صورة أخرى من نشاطاتهم التخريبية ضدَّ الإسلام من خلال ما كانوا يقومون به من صدّ المؤمنين عن سبيل اللّه ،لينحرفوا بهم إلى السبيل الأعوج ؛وذلك بما يثيرونه في حياتهم من الشبهات التي تربك إيمانهم ،والعصبيات القديمة التي تُفسد عليهم وحدتهم وتماسكهم في خطّ الإسلام ،والمشاكل الجزئية التي تُشغلهم عن الاندفاع في العمل الجادّ في سبيل اللّه ،ثُمَّ يؤكّد لهم أنَّ هذا السلوك المضادّ للحقّ لم ينطلق من شبهة طارئة في نفوسهم ،أو من انكشاف خلاف ذلك لديهم ؛بل القضية التي تفرض نفسها على الواقع ،أنَّهم شهداء على الحقّ ،فهم يعرفونه في التوراة التي يقرأونها ،وفي القرآن الذي سمعوه ،وفي الأساليب التي كان النبيّ محمَّد ( ص ) يتبعها معهم في سبيل إقناعهم بالحقّ ...وبذلك كان دورهم التخريبي واضحاً كلّ الوضوح ،ما جعل من الموقف الإلهي في نهاية الآية تهديداً حاسماً ينذرهم بأنَّ اللّه ليس بغافلٍ عمَّا يعملون ،ولا بُدَّ لذلك من نتائج عملية على قضية المصير في الدُّنيا والآخرة .
[ قل يا أهل الكتاب لِمَ تصُدُّونَ عن سبيل اللّه من آمن] لتنحرفوا بهم عن الخطّ المستقيم ،من خلال الفتنة التي تثيرونها في داخل المجتمع المؤمن من العصبيات العشائرية وغيرها ،أو التعقيدات الفكرية أو العملية التي تحرّكونها ،[ تبغونها عوجاً] منحرفة عن خطّ الحقّ ،لأنَّكم لا تريدون للإسلام مواصلة طريقه في الاتجاه الصحيح الذي يؤدّي إلى تغيير الواقع وتحرير الإنسان من نقاط ضعفه ،[ وأنتم شهداء] تعرفون الحقيقة الأصيلة المنفتحة على المضمون الرّسالي الذي يتمثّل في رسالة النبيّ محمَّد( ص ) من خلال البشارة به في التوراة والإنجيل ،وتملكون الفكر الذي تتعرفون من خلاله عمق الأشياء في أسرارها وخلفياتها وامتداداتها ،بما يجعلكم في موقع الشهادة للحقّ من قاعدة المعرفة التفصيلية للفارق بين الحقّ والباطل ،ما يفرض عليكم تحمّل مسؤولياتكم العملية في هذه القضية لتواجهوا الموقف الحاسم بين يدي اللّه ،فإنَّه المطّلع على سرّكم وعلانيتكم ،وتلك هي الحقيقة الإيمانية التي تفرض نفسها على وجدان كلّ مؤمن باللّه ،أو كلّ إنسانٍ واعٍ للمعنى الإلهي في معنى الربوبية ،[ وما اللّه بغافلٍ عمَّا تعملونَ] الأمر الذي يجعلكم في موقع الحذر من تهديده في اطلاعه على كلّ شيء وقدرته على كلّ شيء .
ومن خلال هاتين الآيتين نكتشف طبيعة الأسلوب التقريري ،الذي يريد أن يقرّر الحقيقة للآخرين في نوعية مواقفهم بطريقة توجيه الخطاب إليهم ،لتنكشف اللعبة من خلال كشف اللاعبين أمام أنفسهم وأمام الآخرين ،في جوّ من التهديد الخفيّ الذي يشعرون معه بأنَّ أعين اللّه النفاذة إلى الأعماق لا تغفل عن كلّ ذلك ،مهما كان حجمه ومهما كانت نتائجه ،ليعيشوا القلق الروحي الذي قد يدفعهم إلى التراجع عن مواقفهم ،ويمنعهم عن الامتداد بعيداً في ما يمتدون به من خطوات الغيّ والضلال ،أو يفضحهم في عيون الآخرين ،فلا يستطيعون أن يُضللوا ويُفسدوا في أقوالهم وأفعالهم .