ما هي الآيات البيّنات ؟
4[ فيه آياتٌ بيّناتٌ] .لقد تحدّثت الآية عن الآيات البيّنات ولم تفصّلها ،ولم تذكر طبيعتها ،ولم يُعرف أنَّ التعقيب ب [ مقامِ إبراهيم] هل هو ذكر نموذج منها باعتبار الأثر البارز الذي يؤكّد انتساب البيت لإبراهيم ،لأنَّه كان يصلّي فيه بدلالة وجود مقامه الذي لا يشك أحدٌ فيه ،لأنَّه مما توارثه الأبناء عن الآباء ،فيكون التقدير: منها مقام إبراهيم ،أو يكون بدلاً منها فيكون التقدير: فيه مقام إبراهيم ...ويرى بعض المفسِّرين أنَّ الآيات هي مقام إبراهيم والأمن لمن دخله والحج لمن استطاع إليه سبيلاً .
قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان: «ولا ريب في كون كلّ واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على اللّه سبحانه ،مذكرة لمقامه ،إذ ليست الآية إلاَّ العلامة الدالّة على الشيء بوجه ،وأيّ علامة دالة عليهتعالىمذكرة لمقامة أعظم وأجلى في نظر أهل الدُّنيا من موقف إبراهيم ،ومن حرم آمن يأمن من دخله ،ومن مناسك وعبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من النَّاس تتكرر بتكرر السنين ،ولا تنسخ بانتساخ الليالي والأيام ؟!وأمّا كون كلّ آية أمراً خارقاً للعادة ناقضاً لسنّة الطبيعة فليس من الواجب ،ولا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه ،ولا استعماله في القرآن ينحصر فيه .قال تعالى: [ ما ننسخ من آية أو نُنسها] ( البقرة:106 ) الآية ؛وهي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعاً ،وقال تعالى: [ أتبنونَ بكلِّ ريعٍ آيةً تعبثُونَ] ( الشعراء:128 ) ،إلى غير ذلك من الآيات » .
ولكن ذلك غير ظاهر ،وذلك بلحاظ أنَّ الآيات البيّنات ليست من قبيل المظروف بالنسبة إلى الظرف ،ما يعني وجوده فيه تماماً كما هو مقام إبراهيم ( ع ) ،أمّا الأمن لمن دخل والحجّ إليه فهو من أحكامه وخصائصه الشرعيّة ...
وربَّما يوجه ذلك بأنَّ الظرفية ليست واردة على سبيل الحقيقة ،بل على سبيل المجاز ،لا سيّما إذا عرفنا أنَّ مقام إبراهيم ليس جزءاً من البيتالكعبة ،بل هو خارج عنها ،كما أنَّ السياق جارٍ على أساس بيان مميزات هذا البيت عن البيوت الأخرى ،مما يُحتملمعهأن تكون كلمة «في » واردة بمعنى الموازنة والمقايسة ،وربَّما يؤكّد كلام العلامة الطباطبائي ،من نفي إرادة المعجزة من الآية ،أنَّ اللّه أشار إلى مقام إبراهيم من دون بيان لما ذكره المفسِّرون من تأثير قدّمه في الصخرة التي وقف عليها ،بل ربَّما كانت الإشارة إلى القيمة الإيحائية لهذا المقام الذي يمنحنا وعي الشخصية الإبراهيمية في عناصرها المميزة الموحية بكلّ الخطّ التوحيدي الذي يريد اللّه للنَّاس السير عليه ،ما يجعل منها في موقعها العبادي آية تدل على الطريق إلى اللّه في الأسلوب التأمّلي والالتزامي والعملي .وفي ضوء ذلك ،يمكن أن نتمثّل الآية في الخصائص التي جعلها اللّه للبيت الحرام في التشريعات التي تتحرّك لتصنع واقعاً يعيشه النَّاس في أمنهم في المنطقة الحرام ،وعبادتهم المتحرّكة المنفتحة على أكثر من أفقٍ في حياتهم حول الكعبة الحرام ،الأمر الذي يؤدّي إلى التذكير باللّه والارتباط به ،والدلالة عليه ،من خلال الوضوح في الرؤية ،والعمق في التفكير ،والاستقامة في الخطّ ؛واللّه العالم .
الكعبة أرض سلام:
[ ومن دخله كان آمناً] وهذا واردٌ في مقام التشريع لا الإخبار ،فإنَّ الواقع غير هذا في كثير من حوادث التاريخ التي استبيحت فيها حرمة البيت ،فقتل فيه ناس كثيرون من قِبَل الطغاة والظالمين تمرّداً على الأمر الإلهي الذي اعتبره واحة سلام ،فلا يجوز لأحد أن يعتدي فيه على أحد حتّى لو كان غريماً له في قتل أو مال أو عرض أو غير ذلك ،بل ينتظر حتّى يخرج .وقد ورد في بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت ( ع ) أنَّه يمنع من السوق ولا يُباع ولا يُطعم ولا يُسقى ولا يُكلم حتّى يخرج فيما إذا أحدث جريمة في غير الحرم ثُمَّ فرّ إلى الحرم ،أمّا إذا أحدث جريمة في الحرم أخذ فيه ،لأنَّه اعتدى على حرمة الحرم فلا يبقى له حرمة فيه .
وقد نستوحي من هذا الحكم الشرعي في حرمة هذه المنطقة المسمّاة بالحرام التي كانت الكعبة البيت الحرام أساساً لحرمتها ،أنَّ اللّه سبحانه أراد أن يجعل موقعاً من الأرض منطقة سلام يتخفف النَّاس فيها من أحقادهم وعداواتهم ،ويعيشون في داخلها أعلى درجات الصبر في السيطرة على نوازع النفس الممتلئة بالحقد والعداوة والبغضاء ،بحيثُ إنَّ الإنسان يرى قاتل أبيه أو ولده فيُقابله وجهاً لوجه فلا يعرض له ،بالرغم من ضغط التقاليد العشائرية الجاهلية القائمة على الأخذ بالثأر ،احتراماً للّه في بيته المحرّم ،فلا يسيء إليه ،ولا ينقص من حرمته ،مهما كانت الحالة النفسية ضاغطة عليه ،ما يجعل الإنسان يعيش تجربةً روحية فريدة تمنحه الفرصة للتأمّل في النتائج السلبية المترتبة على الثأر ،أو في طبيعة المسألة في خلفياتها وامتداداتها ،ليتعرف وجه الصواب والخطأ في انطباعاته التي كوّنها تجاه الموضوع ،فقد تكون النتيجة أن يتحوّل هذا السَّلام النفسيولو في هذه المنطقةإلى حالة سلام في الواقع عندما يكتشف هذا الإنسان أنَّ العفو أقرب للتَّقوى ،وأنَّ الصبر خيرٌ للصابرين ،وأنَّ حلّ المشكلة بالوسائل السلمية هو الأفضل في مواجهة سلبيات الواقع .
وربَّما يحتاج الإنسان إلى أن يدخل في منطقة سلام في المواقع الحارّة من الصراع بموجب المعاهدات والمواثيق بين النَّاس ،ليعيش النَّاس فيها بعضاً من الهدوء النفسي والسَّلام العملي ،ليكون ذلك بمثابة المنطقة التي يستريح فيها أبناء الخير من أجل تجديد الروح المندفعة نحو الخير في الدرب الطويل .
شروط الحج
[ وللّه على النَّاس حِجُّ البيتِ من استطاع إليه سبيلاً] .لقد تحدّثت الأحاديث عن تحديد الاستطاعة بالتمكن من الزاد والراحلة في ضمن شروط شرعية معينة مذكورة في كتب الفقه ،وبالقدرة البدنية على ذلك مما هو محدّد في محلّه .
ولا بأس بالحديث عن عدّة نقاط حول الموضوع:
الأولى: وردت عدّة أحاديث مأثورة عن أهل البيت ( ع ) في عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج ،فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) قال: كان علي يقول لولده: «اللّه اللّه في بيت ربّكم ،لا تخلوه ما بقيتم ،فإنَّه إن ترك لم تُناظروا »[ 8] .وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّهجعفر الصادق ( ع )يقول: «أمّا إنَّ النَّاس لو تركوا حج هذا البيت لنزل بهم العذاب وما نوظروا » .
وجاء عن الإمام الصادق في رواية عبد اللّه بن سنان قال: «لو عطل النَّاس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاءوا وإن أبوا ،لأنَّ هذا البيت إنَّما وضع للحج » .
الثانية: يجب الحج مع الاستطاعة على الفور ،فيحرم تأخيره وتركه ،فقد جاء في رواية معاوية بن عمّار عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) أنَّه قال: «قال اللّه تعالى: [ وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً] قال: هذا لمن كان عنده مال وصحة ،فإن سوّفه للتجارة فلا يسعه ذلك ،وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام إذا ترك الحج وهو يجد ما يحجّ به » .
الثالثة: لا بُدَّ في تحقّق الاستطاعة الموجبة للحجّ من القدرة عليه مالياً وبدنياً مع حرية الوصول إلى المناسك ،فقد جاء عن الإمام جعفر الصادق ( ع )في ما رواه عنه محمَّد بن يحيى الخثعميقال: «سأل حفص الكناسي أبا عبد اللّه جعفر الصادق( ع ) وأنا عنده عن قوله اللّه عزَّ وجلّ: [ وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً] ما يعني بذلك ؟قال: من كان صحيحاً في بدنه ،مخلّى في سربه ،له زاد وراحلة ،فهو ممن يستطيع الحج .أو قال: مَنْ كان له مال ،فقال له حفص الكناسي: فإذا كان صحيحاً في بدنه ،مخلّى في سِربه ،له زاد وراحلة فلم يحج ،فهو ممن يستطيع الحج ؟قال: نعم »[ 12] .
وقد اشترط في استكمال شروطه أن يكون لهبالإضافة إلى ذلكمال يقوت عياله حتّى يرجع إليهم ،من خلال مسؤوليته في الإنفاق عليهم .فقد روي عن أبي الربيع الشامي قال: «سُئِلَ أبو عبد اللّهجعفر الصادق( ع )عن قول اللّه عزَّ وجلّ: [ وللّه على النَّاس حِجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً] فقال: ما يقول النَّاس ؟قال: فقلت له: الزاد والراحلة ،فقال أبو عبد اللّه: قد سُئِلَ أبو جعفرمحمَّد الباقر( ع )عن هذا فقال: هلك النَّاس إذاً لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ويستغني به عن النَّاس ،ينطلق إليهم فيسلبهم إياه لقد هلكوا إذاً ،فقيل له: فما السبيل ؟قال: فقال: السعة في المال إذا كان يحجّ ببعض ويبقي بعضاً لقوت عياله ،أليس قد فرض اللّه الزكاة ،فلم يجعلها إلاَّ على من يملك مائتي درهم ؟!» .
وإذا استدان الإنسان مالاًوكان قادراً على الوفاء به في موعدهوحجّ البيت كان حجّه حجّ الإسلام ،لتحقّق عنوان الاستطاعة لديه ،مع كونه صحيح البدن بمعنى القدرة على أداء المناسك بشكل طبيعي صحي ومخلّى السرب ،وخالف في ذلك بعض .
وإذا بذل له أحد مصاريف حجّه كان مستطيعاً .
الرابعة: إنَّ الحجّ واجبٌ على النَّاس كلّهم من دون تخصيص بجماعة دون جماعة ،فوزانهفي ذلك مع استجماع الشروطوزان العبادات جميعاً .
ما معنى الوصف بالكفر لتارك الحجّ ؟
[ ومن كفر فإنَّ اللّه غنيٌّ عن العالمين] ،الظاهر أنَّ المراد به من لم يحجّ كما وردت به بعض الأحاديث ،وقد تكرّر فيها ذلك كما في الحديث عن الصادق( ع ): «من مات ولم يحجّ حجّ الإسلام ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً » .وهذا أسلوب قرآني شائع في القرآن ،للإيحاء بأنَّ قضية الإيمان والكفر ليست قضية فكرية فحسب ،بل هي قضية عملية تتصل بالموقف العملي للإنسان ،فقد يكون الإنسان مؤمناً في العقيدة ،ولكنَّه كافر في العمل إذا كان لا يقوم بما فرضه اللّه عليه من الالتزام بفعل الواجبات وترك المحرّمات .وقد تحدّث اللّه عن غناه عن العالمين ،للإيحاء بأنَّ الطاعة لا تزيد في ملكه شيئاً ،لأنَّ اللّه هو الذي خلق العبد ومكّنه من الطاعة ،فهو الغني عن وجوده ،كما هو الغني عن طاعته ،فهي مصلحة للإنسان من خلال نتائجها الإيجابية عليه في حياته .كما أنَّ هناك بعض الإيحاء من الناحية التغييرية بالسخط الإلهي لهؤلاء الذين يتركون الحجّ فيكفرون باللّه كفراً عملياً .