تحويل القبلة إلى الكعبة:
ربَّما تكون هذه الآيات ردّاً على ما حاول أن يثيره اليهود على الإسلام والمسلمين من شبهات في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ،لأنَّ بيت المقدس هو الذي أُمِر النَّاس بالتوجه إليه أوّلاً لقدمه وعبادة الأنبياء فيه .فجاءت هذه الآيات لتذكرهم بأنَّ هذا البيت هو [ أوَّل بيت وضع للنَّاس] لعبادة اللّه ،وليكون مصدر بركة وهدي للعالمين ،و [ فيه آيات بيِّناتٌ مقامُ إبراهيم] الذي كان يتعبّد فيه كدلالة على أقدميته ،لأنَّ بيت المقدس كان من بناء سليمان ( ع ) ،الذي هو متأخر بزمان كثير عن إبراهيم( ع ) ،وقد جعله اللّه آمناً للنّاس [ ومن دخله كان آمنا] لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه مهما كان وضعه .وقد تعبد اللّه النَّاس بقصده والحج إليه لكلّ من استطاع إلى ذلك سبيلاً ،ما يوحي بأنَّه محل عناية اللّه ورعايته واهتمامه به ،فلا مانعمن هذه الجهةأن يحوّل القبلة إليه ،ليتوجه النَّاس إليه في صلاتهم كما يتوجهون إليه بالقدوم إليه في حجّهم .
ربَّما تكون هذه الآيات واردة في هذا الجوّكما عن بعض المفسِّرينوربَّما لم تكن كذلك ،بل كانت واردة في مقام تقرير هذه الحقيقة من ناحيةٍ مستقلة ،كمقدّمة للحديث عن تشريع الحج من حيث إنَّ ذلك يلتقي بقيمة هذا البيت في ما استهدفه إبراهيمبأمر اللّهمن بنائه ،بأن يكون ملتقى للنّاس من كلّ مكانٍ لعبادة اللّه وللتعاون فيما بينهم على الخير والتَّقوى ،وللنفع العميم الذي تمثّله كلمة البركة ،وللهدى الذي يمتد منه للعالمين من خلال ما يهتدي به النَّاس عندهم إلى ما فيه صلاح أمر دنياهم وآخرتهم .وفي ضوء ،ذلك يمكن أن نتوقف أمام عدّة أمور في هذه الآيات من أجل أن تتضح لنا معانيها التفصيلية .
ما معنى أوّل بيت ؟
1إنَّ معنى قوله تعالى: [ إنَّ أوّل بيتٍ وضِعَ للنَّاس للذي ببكَّةَ] ليس هو أنَّه أوّل ما بني على وجه الأرض ،كما قد يتوهمه البعض ،بل المراد به أوّل بيتٍ وضع للعبادة والهدى والبركة للنّاس ...وهذا ما وردت به الرِّواية عن عليّ أمير المؤمنين ( ع ) في ما نقله ابن شهر آشوب عنه ،في قوله تعالى: [ إنَّ أوّل بيتٍ وضِعَ للنَّاس للذي ببكَّةَ] الآية ،فقال له رجل: أهو أوّل بيت ؟قال: لا قد كان قبله بيوت ،ولكنَّه أوّل بيت وضع للنَّاس مباركاً ،فيه الهدى والرحمة والبركة .وأوّل من بناه إبراهيم ،ثُمَّ بناه قومٌ من العرب من جرهم ،ثُمَّ هُدِّم فبنته العمالقة ،ثُمَّ هُدِّم فبناه قريش ...
وفي الدر المنثور عن عليّ بن أبي طالب( ع ) في قوله: [ إنَّ أوّل بيتٍ وضِعَ للنَّاس ببكَّةَ] قال: كانت البيوت قبله ،ولكنَّه كان أوّل بيت وضع لعبادة اللّه .ونستوحي من هذا الحديث أنَّ الأنبياء السابقين مثل نوح ،لم يبنوا بيوتاً للعبادة ،ولذا لم يشر القرآن في آياته إلى ذلك ،ولم ينقل ذلك بطريقةٍ مفصلةٍ في التاريخ ،وربَّما كان المراد بأنَّه أوّل بيتٍ للعبادة ،المعنى الشموليّ الذي أراده اللّه للنّاس جميعاً ،فهو البيت العالمي للعبادة ؛أمّا البيوت التي كانت قبلهلو كانت هناك بيوت للعبادة قبلهفهي بيوت محلّية خاصة بالمجتمع الذي يعيش حولها ؛واللّه العالم .
لماذا سميت مكّة بكّة ؟
2ورد عن الإمام الصادق( ع ): إنَّما سميت مكّة بكّة لأنَّ النَّاس يبكّون فيها ،أي يزدحمون .وعن الإمام محمَّد الباقر( ع ): إنَّما سميت مكّة بكّة لأنَّه يبكِ بها الرجال والنساء والمرأة تصلي بين يديك وعن يمينك وعن يسارك وعن شمالك ومعك ،ولا بأس بذلك ؛إنَّما يكره في سائر البلدان[ 5] .وقد تقدّمت بعض الوجوه حول الموضوع في معاني المفردات .
بيت اللّه ودوره في رسالة الحياة:
3إنَّ الخصائص الأولى التي ذكرها اللّه لهذا البيتالكعبة توحي بمعنى الشمول في ما يريده اللّه لبيته هذا ،كما يوحي به لبقية البيوت ،فقد وضعه اللّه للنَّاس ولم يجعله لفئةٍ دون فئة ،لأنَّه وُضع لعبادة اللّه التي لا يختص بها أحد ،فلا معنى لاختصاصه بأحد معيّن .وقد نستوحي منه أن لا تشيد المساجد لتكون لعائلة معينة أو لجماعة معينة ،بحيث تمنع منها بقيّة العائلات أو الجماعات ،لأنَّ المسجد لم يوضع ليتحدّد ،بل ليكون شاملاً لكلّ النَّاس تبعاً لشمولية دوره في أن يكون محلاً لعبادة اللّه ربّ العالمين .
وقد جعله [ مباركاً] ،والبركة هي الخير الكثير الذي تمتد منه المنافع والمصالح للنّاس ،ما يعني أنَّ دور المسجد لا يتحدّد بالعبادة ،بل يتسع لكلّ منافع النَّاس ،سواء كانت علميّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو غير ذلك من الأمور المتصلة بحياة النَّاس العامّة .وفي ضوء ذلك ،كان الدور الإسلامي للمسجد هو أن يكون الملتقى الروحي للنّاس ،فيعبدون اللّه ويتعلّمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم ،ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية ،فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلّقة بتنظيم حياتهم كما تنطلق منها صيحات الجهاد .وسارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا الخطّ ،فكانت تجسيداً للمفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على اللّه سبحانه ،لينفتح النَّاس من خلال ذلك على الحياة من مواقعها المضيئة المتحرّكة في سبيل الخير .
وجاءت عصور التخلّف التي جمّدت عقول المسلمين وأفكارهم فتجمّد كلّ شيء حولهم ،ونالت المساجد حصّة من هذا التجميد ،فإذا بهم ،حكاماً وشعوباً ،ينكرون على العالمين والمصلحين أن يتحدّثوا في المساجد بغير الشؤون الدينية الخاصة التي تتحدّث عن الجنّة والنّار والعبادات والأخلاقيات التجريدية ...فإذا انطلقوا بالحديث إلى ما أمر اللّه به من مقاومة الظلم والانحراف في شؤون الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد ،اتهموهم بأنَّهم يستغلون بيوت اللّه لغير الأغراض التي وضعها ،تماماً كما هي المعابد لدى اليهود والنصارى كما يزعمون ؛وأثاروا الثائرة عليهم ،بأنَّهم يعملون على إدخال السياسة للمسجد وتسييس الدين ،زعماً منهم بأنَّ الدين لا يلتقي بالسياسة التي لا دخل لها بالدين ،مع أنَّ اللّه سبحانه يصرّح في أكثر من آية ،بأنَّ اللّه أنزل كتبه وأرسل رسله من أجل أن يقوم النَّاس بالقسط .
استيحاء كلمة «مباركاً »:
وقد نستوحي من كلمة [ مباركاً] المعنى الممتد في حياة النَّاس الذين يقصدون هذا البيت من سائر أنحاء العالم ،ليجتمعوا حوله على أساس كلمة التوحيد التي توحدهم ،والرسالة التي تجمعهم ،والقضايا الحيوية التي تتحرّك في واقعهم الخاص والعام ،لا سيّما القضايا المتصلة بالمصير السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والاجتماعي أمام التحدّيات الكبرى التي يواجهونها من قِبل الكفر والاستكبار العالميين ،ليتعارفوا فيما بينهم وليتبادلوا المعلومات ،وليستلهموا التجارب ،وليخطّطوا للوحدة في الموقف ،من حيث إحساسهم بوحدة أمتهم في خطِّها العقيدي والعملي ،وفي مصيرها الواحد ،وليتحاوروا في ما اختلفوا فيه من تفاصيل العقيدة والشريعة والمنهج ،والأمور المتصلة بالواقع السياسي والأمني والاقتصادي في علاقاتهم ببعضهم البعض وبالآخرين ،وليحرّكوا أوضاعهم الاقتصادية على أساس خطّة سليمة تحقّق لهم الإنتاج مما يحتاجونه في حياتهم العامّة ،بحيث يصلون إلى مستوى الاكتفاء الذاتي ليكونوا في موقع الاستقلال في إدارة أمورهم ،وهكذا يتحوّل الحج إلى مؤتمر إسلامي عالمي يحقّق البركة للإسلام في فكره وحركته ،وللمسلمين في وجودهم وامتدادهم وأوضاعهم العامّة والخاصّة ،وهذا ما نستوحيه من الكلمة المعبِّرة [ مباركاً] .
ولكن الأوضاع المعقدة التي طرأت على الواقع الإسلامي السياسي ،جعلت مواقع المسلمين تحت سيطرة الكافرين المستكبرين ،وجمّدت كلّ حيوية مفاهيمهم في دينهم وحركتهم ،فأصبحت مجرّد صور جامدة في الفكر ،وطقوسٍ ميتة في الواقع ،وأبعدت الحج عن امتداده الحضاري الحركي في حياة المسلمين ،فلا فرصة لأي اجتماع عام للبحث في القضايا الحيوية المصيرية المتصلة بحياة النَّاس وللتخطيط للمستقبل في اتجاه حلّ مشاكل الحاضر بالطريقة الحكيمة ،وذلك تحت شعار أنَّ الحج عبادة لا سياسة ،تماماً كما لو كان معنى السياسة معنى بعيداً عن معنى العبادة التي أراد اللّه لها في الصلاة أن تنهى عن الفحشاء والمنكر ،بالمعنى العام للكلمتين الذي يتسع لكلّ مواقع الانحراف في حياة الإنسان ،وفي الصوم الذي أراده اللّه أن يكون سبيلاً من سُبُل تحقيق التَّقوى الروحيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والأمنيّة والاقتصاديّة ،وفي الحج الذي أراده اللّه للنّاس ليشهدوا منافع لهم في كلّ الأمور التي تتصل بالنفع العام لحياتهم المنفتحة على كلّ خيرٍ وكلّ جديد ،ولا يتحقّق ذلك إلاَّ بالسياسة المنفتحة على أمور النَّاس بالحقّ .
بيت اللّه هدى للعالمين:
وقد جعله الله [ وهدى للعالمين] من خلال ما يهدي إليه من سعادة الدُّنيا والآخرة ،ما يوحي بأنَّ مهمّة المساجد للقائمين عليها هي هداية النَّاس بالممارسة من خلال عبادة اللّه فيها ،وبالتوجيه من خلال توجيه النَّاس وتعليمهم وتثقيفهم بأمور دينهم في كلِّ ما يتصل بحياتهم ،لينطلق المسلمون من المساجد إلى حياتهم من خلال الانفتاح على كلّ المعاني الكبيرة التي يستهدفها الإسلام للحياة ،وليحمل كلّ واحد منهم المعرفة الشاملة لشريعة اللّه في كلّ أحكامها المتصلة بالحياة الخاصّة والعامّة ،لتكون الشريعة ومفاهيم الإسلام المنبثقة عنها في كلّ فكرٍ وعلى كلّ لسان ،فلا تبقى محتكرةً على فئة معينة من النَّاس ،لنستطيع من خلال ذلك أن نجعل من كلّ مسلم إنساناً واعياً متحرّكاً يعمل في حياته الخاصّة لإسلامه من موقع الوعي ،ويدعو إليه بطريقة واعية من قاعدة الحركة .وفي ضوء ذلك ،نستطيع أن نؤكّد بأنَّ القائمين على شؤون المساجد الذين يقتصرون فيها على إقامة الجماعة ،ولا يقومون بمهمة التوجيه والهداية ،ويحولونها إلى منطقة نفوذ يتوارثها الأبناء عن الآباء ،هم من المنحرفين عن رسالة المسجد التي هي الهدى للنَّاس بحسب ما يتسع له المسجد من ذلك ،فليتقوا اللّه وليقولوا قولاً سديداً .