/م93
أما قوله عز وجل:( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) فهو جواب الشبهة الثانية ، وتقريره:إن البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس ؛ بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لأجل العبادة خاصة .ثم بني المسجد الأقصى ببيت المقدس بعده بعدة قرون بناه سليمان بن داود عليهما السلام .فصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم ، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وولده إسماعيل .وهذا هو المعنى الظاهر المتبادر من الآية الذي قرره الأستاذ الإمام .وهو كاف في إبطال شبهة اليهود على النبي عليه الصلاة والسلام من غير حاجة إلى البحث في هذه الأولية ، هل هي أولية الشرف أو أولية الزمان ؟
أقول:والمتبادر أنها أولية الزمان بالنسبة إلى بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء .فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يعرف من تاريخهم وما يؤثر عنهم .وهذا يستلزم الأولية في الشرف .
وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولية زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا .فقالوا:إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما .وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى:إذا صح الحديث فلاشيء في العقل يحيله .ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته .وبيت المقدس المعروف الذي ينصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق وذلك قبل ميلاد المسيح بنحو 800 سنة:كذا قال رحمه الله تعالى في الدرس .والمعروف في كتب القوم إنه تم بناؤه سنة 1005 قبل الميلاد .والحديث الذي ذكر آنفا في بناء المسجدين رواه الشيخان من حديث أبي ذر بلفظ الوضع لا البناء .قال"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال:المسجد الحرام ثم بيت المقدس .فقيل:كم بينهما ؟ فقال: "أربعون سنة "{[322]} وأجابوا عما فيه من الإشكال بوجوه ، منها:أن الوضع غير البناء وهو ضعيف ، لأنه سماه بيتا .ولو جعل المكان مسجدا ولم يبن فيه لما سمي بيتا بل مسجدا أو قبلة .ومنها:أن ذلك مبني على القول بأن إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس .وذلك معقول وإن لم يكن عندنا فيه نص صحيح .وقال ابن القيم:إن الذي أسس بيت المقدس يعقوب ، وإنما كان سليمان مجددا له .هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع .والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها .
أما قوله تعالى في البيت:( مباركا وهدى للعالمين ) فهو بيان لحاله الحسنة الحسية وحاله الشريفة المعنوية .أما الأولى:فهي ما أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء على كونه بواد غير ذي زرع .فترى الأقوات والثمار في مكة أكثر وأجود وأقل ثمنا منها في مثل مصر وكثير من بلاد الشام .وأما الثانية:فهي هُويّ أفئدة الناس إليه وإتيانه للحج والعمرة مشاة وركبانا من كل فج ، وتولية وجوههم شطره في الصلاة ، ولعله لا تمر ساعة ولا دقيقة من ليل أو نهار وليس فيها أناس متوجهون إلى ذلك البيت الحرام يصلون .فأي هداية للعالمين أظهر من هذه الهداية .تلك دعوة إبراهيم ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [ إبراهيم:37] وقد أشير إلى الوصفين في قوله تعالى:حكاية عن المشركين ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ القصص:57] وقال بعضهم:إن"مباركا "يشمل البركات الحسية والمعنوية .وما اخترناه هو المتبادر .
ومن مباحث اللفظ في الآية:إن ( بكة ) اسم لمكة .كما روي عن مجاهد ، قيل:وعليه الأكثرون ، وجعلوه من إبدال الميم باء ، وهو كثير في كلامهم ، كسمّد رأسه وسبده ، وضربة لازم وضربة لازب ، وراتم وراتب ، ونميط ونبيط .وقيل:بكة اسم المسجد نفسه ، أو حيث الطواف من التباك ، أي الازدحام وقيل:هو اسم بطن مكة حيث الحرم .