{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} إن الله سبحانه وتعالى نفى استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا ، لأن حرف ( لن ) لتأكيد النفي ، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة .
وقد فرض العلماء أن هذه العدالة غير الممكنة لا تكون إلا إذا كان الرجل ذا زوجين فأكثر ، وذلك ظاهر لأن العدالة النفسية بالمساواة في الإقبال القلبي والمحبة ، أمر غير ممكن لأن الناس بحكم الخلقة لا يملكون نزعات نفوسهم وميول قلوبهم ، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته في كل ما هو ظاهر كالمبيت والكسوة والنفقة وكل ما يتعلق بصورة الحياة الزوجية ، ولكنه وهو أكمل البشر لم يستطع العدالة النفسية ، ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم:"اللهم إن هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك"{[821]} .
وقد ادعى بعض الكتاب في أول هذا القرن العشرين الميلادي وتبعه غيره ، أنه بضم آية{. . .فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة . . .( 3 )}( النساء ) إلى هذه الآية التي نتكلم في معناها يكون منع تعدد الزوجات ، وما هكذا تفهم النصوص في القوانين فضلا عن نصوص القرآن فإن البداهة تتجه إلى التوفيق والتوفيق يبدو بادئ النظر ، وهو أن هذه الآية موضوعها نفسي والآية في صدر السورة موضوعها العدالة الظاهرة ، وقد وضح المعنى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه ، وهو عجزه عليه الصلاة والسلام عن العدالة النفسية ، وعلى فرض أن التوفيق غير ممكن إن سايرنا تلك المدارك المحدودة ، فإن المتأخر ينسخ المتقدم ، والمتأخر هو هذه الآية التي نتكلم في معناها ، وهي تطالب بالعدالة المطلقة ، بل طالبت بالممكن فقال تعالى:{ فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا} .
المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة ، فلا هي ذات زوج تنال الحقوق الزوجية أو بعضها ، ولا هي خالية الأزواج ، ترجو أن يوفقها الله تعالى وهذا تشبيه بالشيء المعلق بشيء من الأشياء لأنه لا يكون قد استقر على الأرض ولا ما علق عليه تحمله ، أو يستطيع تحمله .
وإنه لأجل الوصول إلى هذا الحل الذي لا يكون فيه شطط يجب التدخل لإصلاح ذات البين ، ولذا قال الله تعالى:{ وإن تصلحوا وتتقوا} وهذه هي المرتبة الثانية من الشقاق التي يتعذر فيها على الزوجين أن يقوما بعلاجها ، ولذا يستمد العلاج بين المتصلين بهما وهو المنصوص عليه في قوله تعالى:{ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما . . .( 35 )}( النساء ) ، وعند التدخل للإصلاح يجب أن تكون تقوى الله هي التي تحكم الحكمين ولذا قرن الإصلاح بالتقوى ، فإن كان إصلاح القلوب مع تقواها ، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر ما عساه يكون من تجاوز للحد قبل ذلك ، ولذا ختم سبحانه وتعالى هذا الجزء من العلاج بقوله:{ فإن الله كان غفورا رحيما} أي أن غفرانه البالغ ورحمته الواسعة المستمرة المؤكدة يفيضان على المصلحين المتقين ، فإن لم يجد هذا كانت المرتبة الأخيرة وهي الفراق ، ولذا قال سبحانه:{ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما} .