{ إن الذين أمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا}
/م136
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري:إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب ، فقال في ذلك:"عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل ، ثم كذب به بخلافه إياه ، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه سلم ، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره .
ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذي آمنوا بالتوراة ثم عبدوا العجل وحرفوا التوراة ، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرفوه وكفروا بعيسى وبالله ، إذ جعلوا المسيح ابن الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا".
ونرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت ثم آمنت ثم كفرت ، ثم ازدادت كفرا . . . وما قاله ابن جرير يؤدي إلى أن يكون الكلام في طائفتين:إحداهما اليهود والأخرى النصارى ، ولذلك نرى ترجيح قول الذين قالوا إن هذا النص في مرضى القلوب والمنافقين الذين اضطربت عقائدهم ، فهم يؤمنوا أول النهار ويكفرون آخره ، فيعتريهم قبس الإيمان فيهتدون حينا فيؤمنون ثم تعتريهم ظلمة نفوسهم فيكفرون ثم لا يزالون يترددون حتى تنطفئ قبسات النور من قلوبهم ، وبذلك يزدادون كفرا ، وذلك وصف دقيق للمترددين الحائرين يبتدؤون بحيرة مضطربة بين النور والظلمة ، ثم يوغلون في الظلام إيغالا .
وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد ، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لا تنالهم المغفرة ولذا قال سبحانه:
{ لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} هذا نفي مؤكد للغفران والهداية معا ، فالله لا يغفر لهم ، ولا يهديهم سبيلا مستقيما ، بل هم في حيرة مستمرة واللام في قوله "ليغفر"، "وليهديهم"هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد ، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون ككان ويكون ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس ، فيقول بعض الناس:لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك ، أي ليس من شأني وحالي المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك ، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدى إليه الكفر .
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء ، ولا أن يهديهم السبيل والسبب في ذلك أنه لا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق ، والإنابة إلى الله ، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجب ما قبلها من الذنوب ، إذ أن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة ، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر ، وكذلك لا يهديهم سبيلا ، لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه ، ولمن أراد الهداية وهؤلاء لا يريدونها .
فنفي الغفران ونفي الهداية بسبب أنهم أركسوا في الشر ، وأحاطت بهم خطيئاتهم ، ولقد قال في ذلك الزمخشري رضي الله عنه:"والمعنى أن الذين تكرر منهم الارتداد ، وعهد منهم ازدياد الكفر ، والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف ، من إيمان صحيح ثابت ، يرضاه الله لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب ضربت بالكفر ومرنت على الردة حيث كان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه ، حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى".
اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب إنك سميع الدعاء .