{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا( 145 ) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ( 146 ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما( 147 )} .
/م145
{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه:الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا للصعود والدرك اعتبارا بالحدور ، ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار ولتصور الحدور في النار سميت هاوية وقال تعال:{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} والدرك أقصى بر البحر وسميت مراتب النزول دركات لأنها متداركة متتابعة .
وإن جهنم طبقات بعضها أسفل من بعض ، وإن أسفلها أقساها عذابا ، لأنها تتكاثف عليها ما فوقها من طبقات ، ولأن أعمق النيران أشدها توهجا وأكثر لهيبا .
والمعنى:إن المنافقين الذين مردوا على النفاق واستمرءوه ، صار وصفا لهم يمالئون الكافرين ، ويخذلون المؤمنين ينالهم عذاب يوم القيامة على أشده ، وأشده هو أعماق جهنم ، وهي الهاوية التي تهوي بهم أعمالهم فيها ، وإن هذا النص الكريم يفيد أن جهنم طبقات ومنازل ، وأن العقاب فيها مرتب على طبقاتهم ، وهي كلها عذاب أليم ، وقد وصفها القرآن الكريم بأوصاف كلها تنبئ عن الشدة في العذاب ، فذكرت باسم "جهنم"، وهو ينبئ عن التردي في النار ، ووصفت بأنها "لظى"، وبأنها "الحطمة"ثم "السعير"، ثم "سقر"ثم "الجحيم"ثم "الهاوية"، وقال بعض العلماء إنها مرتبة في مقدار شدتها بهذا الترتيب ، والله أعلم بما يكون يوم القيامة .
ولماذا كان المنافقون في الدرك الأسفل في الهاوية من العذاب ؟ قد أجاب عن ذلك العلماء بأن المنافق أوغل في فساد النفس من أي مشرك كافر ، وقد جعل الله تعالى لآل فرعون الذين مالئوه وعاونوه في طغيانه أشد العذاب ، فقال سبحانه:{ أدخلوا آل فرعون اشد العذاب( 46 )}( غافر ) .
وأولئك في كفرهم ونفاقهم أكثر إيذاء من أي كافر سواهم ، ذلك أنهم جمعوا بين الكفر ، والفسق والتضليل والتغرير والكذب وتعرف أسرار المؤمنين وكشفها ، وإظهار عورات المسلمين في الحروب ، وإفساد الجماعة بإشاعة قول السوء بين المؤمنين ، واستغلال ضعف الضعفاء منهم ، وتوهين أمر المؤمنين بسبب ذلك الاستقلال ، كل هذه الجرائم متتابعة تدل على أن نفوسهم قد فسدت ، وقلوبهم قد شغرت{[829]} من كل خير ، والكافر الجاحد أقرب إلى الهداية من هؤلاء ، فكان عقابهم أشد ، لأن جرائمهم أشد .
ولكن من هو المنافق الذي يستحق أشد العقاب ، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة ؟ نقول في الجواب عن ذلك إنه المنافق الخالص الذي لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط ، ولكن هو الذي كفر بالله وبالرسالة المحمدية ، وأغلق باب الإيمان في قلبه ، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم .
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها ، وهو أشد الكفر ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين ولا تخرج المسلم عن إسلامه ، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا ، ومن ذلك ممالأة الحكام ، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا ، وخداعا . وقيل لابن عمر رضي الله عنهما:"ندخل على السلطان ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه ، فقال رضي الله عنه:( كنا نعده من النفاق ) .
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان ، فريق خلص للنفاق وهذا منكوس القلب والنفس والفكر ، وقسم فيه خصلة من النفاق ، وهذا يتنازعه الخير والشر ، ولنضيء القرطاس بنور الرسالة ، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أحمد:"القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس وقلب مصفح ، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلففقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخاص ، عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه"{[830]} .
وإننا لهذا نقول إن النفاق في داخل الإسلام مراتب ، وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام ، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين ومنهم من يذهب به فرط نفاقه ، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين ، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم مسلمون ، وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام .
هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة ، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة ، ذكره سبحانه بقوله تعالى:
{ ولن تجد لهم نصيرا} نفى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا ، أن يكون لهم نصراء ، وجعل الخطاب موجها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ذاق آثار نفاقهم وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق ، لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين ، حتى لا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذي مردوا عليه ، ولم يتراجعوا عنه ، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق ، لتفوز دولة الباطل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لا ناصر لهم .
وإن هؤلاء لن يكون لهم نصيرا يوم القيامة ، لأنه لله وحده ، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا ، لأن النفاق يسلب الثقة عنهم ، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم ، بل إنهم يستخدمون شرهم ولا يعطونهم خيرا ، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه ، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم ، فتلك سنة الله تعالى في المنافقين:{ ولن تجد لهم نصيرا} .
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أركسوا في الشر ، وطغى على قلوبهم وأغلق باب الهداية عليهم ، حتى أن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه ، فغلاف القلوب قد ينكشف لكنه سبحانه مقلب القلوب ، فقد تكون من المنافق توبة ، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء:{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله} .