{ إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله}
/م145
الاستثناء هنا منقطع ، لأن الذي يتوب التوبة النصوح لا يمكن أن يعد في صفوف المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار ، ولذا نقول إن المعنى هو:لكن الذين تابوا من النفاق وخرجوا من صفوفه يكونون مع المؤمنين ، وإن أولئك الذين يخرجون من أوكار النفاق قد ذكر الله تعالى لهم أوصافا أربعة هي التي تخرجهم من زمرة المنافقين إلى جماعة المؤمنين .
أول هذه الأوصاف:التوبة ، وهي التوبة النصوح وأركانها ثلاثة أولها إدراك لقبح العمل ثم الندم على ما كان منه ثم الإقلاع وأن يعزم على ألا يعود إليه من بعد أبدا ، فإذا تحققت هذه الأركان فإن الله يفتح قلب العبد لنور الهدى ويأخذ بيده إلى سلوك طريق الحق المستقيم .
والوصف الثاني:أن يكون التطهير القلبي له مطهر عملي ليقوى ، وذلك بالإصلاح بأن يتجهوا في ذات أنفسهم إلى الأعمال الصالحة التي هي مظهر الإذعان والتوبة ، فكل ما يكون في النفس من درن النفاق يطهرها منها بالاستمرار على العمل الصالح ويدوم عليه ، فليست التوبة كلاما باللسان ولكنها طهارة للوجدان ، ومع إصلاح النفس وتقوية عزيمتها يتجه إلى الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها ، فلا يفسد بين الناس ولا يغري بالعداوة بينهم ، ولا يخذل أهل الحق ، وينصر أهل الباطل ، فالإصلاح المطلوب يتضمن عناصر ثلاثة ، تطهير النفس من أدناس النفاق كلها ، فيخرجها منها كما يخرج الذهب الخالص مما اختلط به ، والعنصر الثاني العمل الصالح يقوم به لذات نفسه وللناس ، والثالث أن يكون بين الناس عنصر إصلاح وتوفيق ، لا عنصر إغراء وتوهين للجماعة .
والوصف الثالث:الذي يلتحق به أهل الإيمان الاعتصام بالله ، والاعتصام به سبحانه هو التمسك بأوامره ونواهيه ، والالتجاء إلى كتابه وسنة رسوله ، وهذا هو المذكور في قوله تعالى:{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا( 103 )}( آل عمران ) .
والاعتصام بالله يقتضي ألا يجد المؤمن ملجأ إلا في جماعة المؤمنين ، فلا يستنصر بغيرهم ، ولا يجعل ولاءه لمن دونهم ، فذلك شر بلايا النفاق .
الوصف الرابع:الإخلاص في دين الله ، بأن يجعل كل قلبه لله تعالى ، ولا يجعل في قلبه مكانا لغير الله تعالى ، وأن يجعلوا طلبهم الدين لأجل الله تعالى لا لدنيا يصيبونها ولا لهدف غير الإيمان يستهدفونه ، فيطلبون الحق لوجهه ، وينفذون كل أوامر الدين لله ، ويتحقق قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله"{[831]} .
إذا تحققت هذه الأحوال دخلوا في الجماعة المؤمنة ، ولذا قال سبحانه:
{ فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} أي فأولئك الذين اتصفوا بهذه الأوصاف بسببها يخرجون من صفوف المنافقين إلى صفوف المؤمنين ، فالإشارة في قوله تعالى{ فأولئك} للسابقين وهم قد عرفوا بأوصافهم فكانت الإشارة إليهم موصوفين بها ، وكانت هذه الأوصاف هي السبب في ارتفاعهم من دركة النفاق السفلى إلى درجة أهل الإيمان العليا ، وذكر الله سبحانه وتعالى هذه المعية للمؤمنين لشرف الصحبة مع الأخيار الأبرار ، بعد طلبهم النصرة من الأشرار الكفار ، فهذا دليل إلى الرفعة في الصحبة بعد الانخفاض فيها ، كما ارتفعوا عند الله ، والإشارة بالبعيد للدلالة على رفعة منزلتهم بالتوبة ، وفي كل ذلك تحريض عليها وترغيب فيها فإن الله تعالى يحب توبة عبده ، وهو الغفور الرحيم العزيز الكريم .
وإنهم إذا كانوا مع المؤمنين فإن لهم جزاؤهم وقد وعد الله المؤمنين جزاء عظيما ولذا قال سبحانه:
{ وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما} والأجر هو الجزاء ، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما:أن التعبير ب{ سوف} لم يكن استعماله في القرآن ، وهو أحكم الكلام للدلالة على مجرد التسويف الزماني ، بل هي لتأكيد الوقوع في الأمر المستقبل ، وكأن المعنى أنه من المؤكد أنه سينزل المؤمنون بمقام الرضا والجنات في قابل أمرهم كما ظفروا بالرضا والنصر ، والتأييد في عاجلهم .
ثانيهما:تنكير الأجر إذ قال "أجرا عظيما"فنكر الأجر ووصفه بالعظم ، والتنكير هنا للتعظيم فكأنه قد أكد عظم هذا الأجر مرتين مر بما تضمنه معنى التنكير ، ومرة أخرى بالتصريح بوصف العظم ، وإن جزاء الله لعظيم أي عظم . ولقد ذكر الله تعالى أنه سبحانه يحب توبة عبده وجزاءه ، ولا يرضى لعباده الكفر وعقابه ولذا قال سبحانه:{ ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما} .