{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا( 163 )ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما( 164 )رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما( 165 )لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا( 166 )} .
/م163
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} والوحي في الأصل الإعلام الخفي ، والإشارة والإيماء والإلهام وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص ، لا يكون بطريق الإعلام الظاهر ، وقد قال تعالى:{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا( 51 )}( الشورى ) فالوحي على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب ، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب .
والوحي هنا يعم الأنواع الثلاث من كلام الله تعالى لرسله ، كما يدل السياق على ذلك .
والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحي الله تعالى لنبيه الكريم الذي هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية وبين الوحي للرسل السابقين وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته و ب "إن"المؤكدة ، فقال:{ إنا أوحينا إليك} .
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نوح عليه السلام لأنه الأب الثاني للخليقة ، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبي البشر ، ولأن في ذكره معنى التهديد للذين يجحدون ويحاربون الرسالة الإلهية:{ وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا( 26 ) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا( 27 )}( نوح ) .
فذكره تذكير بتهديده ، واستجابة الله تعالى لدعائه ، وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذي كان بينه وبين إبراهيم أبي الأنبياء من بعده ، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد:
{ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان} وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة "وأوحينا"لتأكيد الإيحاء وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين نوح عليه السلام وإبراهيم فإن التكرار في الذكر إيحاء إلى التباعد في الزمن ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد نوح ، والمذكورين لأن أولئك جميعا من ذرية إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم واختلفت أماكنهم .
وإن القارئ يلاحظ أمرين:
أولهما أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة ، فإبراهيم أبو الأنبياء وإسماعيل أبو العرب ، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل ومثله يعقوب ، وقد اختص بالصبر على فراق ولده ، وحبيبه والأسباط وهم أولاد يعقوب عليه السلام جمع سبط وهو ولد الولد مثل للغيرة البشرية تعتري الشباب في فورته وحدته ، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله ، وتكتمل نفسه وقد أوحى الله تعالى إليهم ، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين ، ولعل الوحي إليهم كان من قبيل الإلهام لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة ، وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها ، ولد من غير أب ، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح ، والخروج من سلطان المادة فله بين الأنبياء خواصه ، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين ، وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم وقد قال تعالى فيه:{ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين( 83 ) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين( 84 )}( الأنبياء ) . ويونس عليه السلام إذ تخلى عنه الصبر فهذبه ربه في الدنيا ، ثم صار من المخلصين وقد قال سبحانه:{ وإن يونس لمن المرسلين( 139 )إذ أبق إلى الفلك المشحون( 140 ) فساهم فكان من المدحضين( 141 ) فالتقمه الحوت وهو مليم( 142 ) فلولا أنه كان من المسبحين( 143 ) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون( 144 ) فنبذناه بالعراء وهو سقيم( 145 )} ( الصافات ) .
وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر داود فقال تعالى:{ وآتينا داوود زبورا} أي كما أعطينا داود كتابا خاصا هو الزبور والقراءة المشهورة بفتح الزاي ، وقراءة حمزة بضمها أي "زبورا"{[837]} ، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب وعلى الضم يكون جمعا لزبر بكسر الزاي والزبر هو الشيء المكتوب وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل .
ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام لأن التوراة كانت شرائعها في النظام المتبع ، بل هو حكم ومواعظ ، وقد قال فيه القرطبي:"الزبور كتاب داود ، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام وإنما هي حكم ومواعظ".
ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى داود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين إحداهما أنه كان رجل حرب وجلاد ، ورجل حكم وفصل بين الناس . والثانية أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا ، فكان لا يأكل إلا من عمل يده ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش وهو الذي كان تحت يده كل خزائن ملكه ، ويعف عن أن يمد يده إليه ، ويأكل من عمل يده ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حاله:"إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"{[838]} فهو النبي الملك القائد الذي أدخل نفسه في زمرة العمال إذ كان لا يأكل إلا من عمل يده .