{ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} .
/م58
طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان ، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ، فإطاعة الرسول إطاعة لله ، وإطاعة الله إطاعة للرسول أو تقتضيها ، فقد قال الله تعالى:"{. . .وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . . .( 7 )}( الحشر ) .
وأولو الأمر هم الذين بيدهم الحل والعقد وبيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها وشئونها وإرشادها وتوجيهها . وقد قال بعض الحكام إنهم الفقهاء والذين يستطيعون استنباط الأحكام ، ولكن الأكثرين على أن ولاة الأمر هم الحكام وأهل الحل والعقد .
ونلاحظ هنا أمرين:
أحدهما:أن القرآن الكريم يصرح بأن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا من المؤمنين ، ولذالك يقول سبحانه"منكم"، فلا طاعة مطلقا لمن يغلبون على شئون المسلمين ممن ليسوا من أهل الإيمان ، فأولئك المنحرفون من بعض أهل الهوى الذين يزعمون أنهم مسلمون ، ويزعمون أن الإنجليز أيام حكمهم كانوا من ولاة الأمور الذين يوجب النص طاعتهم_ قد ضلوا ضلالا بعيدا ، وهم بهذا وبغيره خارجون عن حكم الإسلام .
ثانيهما:أن الله قرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله ، فوجب أن تكون طاعتهما من جنس طاعة الله ورسوله ، بأن تكون في سبيل العدل ، ولا تخرج عن حدوده ، وبأن باقتران هذه الآية بالآية السابقة يستبين أن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم هم العادلون ؛ لأن الأولى أوجبت العدل ، والثانية أمرت بالطاعة ، فلو كانوا غير عدول لكانت الطاعة مسايرة لهم على الظلم . وقد نهينا عنه . ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه:
"المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق ، لأن أمور الجور- الله ورسوله بريئان منهم- فلا يُعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم ، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل ، واختيار الحق ، والأمر بهما ، والنهي عن أضدادهما ، كالخلفاء الراشدين . وكان الخلفاء يقولون:أطيعوني ما عدلت فيكم ، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم .
وعن أبي حازم أن سلمة بن عبد الملك قال:ألستم أمرتم بطاعتنا في قوله تعالى:{ وأولي الأمر منكم} قال:أليس قد نُزِعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله:{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصى أميري فقد عصاني"{[747]} .
ولكي تكون طاعة أولياء الأمر في سبيل الحق والعدل ، ومقترنة بطاعة الله ورسوله ، وجب الرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسنة ، ولذا قال سبحانه:{ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}وقد ثبت بإجماع العلماء لا مماراة فيه أن طاعة أولياء الأمر إنما تكون فيما فيه طاعة الله تعالى ، وطاعة رسوله الأمين كما نوهنا ، وأنه ليس لولي الأمر طاعة في معصية ، لقوله صلى الله عليه سلم:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"{[748]} ، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الطاعة في المعروف"{[749]} ، والمعصية منكر لا طاعة فيه ، ولقوله عليه الصلاة والسلام:"على المرء المسلم السمع والطاعة ، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"{[750]} ، ولِما قررنا من أن طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله ، وأنه ليس من المعقول أن يفهم من الآية أن ولي الأمر يطاع حيث يعصى الله ورسوله ، وهما مقترنتان ، وولي الأمر منًّا حقا وصدقا لا يخالف الله ورسوله ، وإلا كان متغلبا طاغيا .
وإذا كانت طاعة ولي الأمر لا تكون إلا في دائرة الكتاب والسنة ، فلا بد أن يكونا هما المرجع في الوفاق والخلاف معا ، فإن اتفق أهل الحل والعقد على أمر مشتق من كتاب الله وسنة رسوله ، وغير خارج عنهما ولا عن أصولهما المقررة ، فهو الحجة الواضحة ، كما كان يفعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقد كانا يعرضان الأمر الذي لا يعرفان له حكما من كتاب ولا سنة على الصحابة ، وأحيانا على كل أهل المدينة ، فما يثبت أنه ورد فيه قرآن أو سنة خضع الجميع له ، وإلا فإنهم ينظرون مجتهدين فيما يكون من جنس ما يأمر به الكتاب أو السنة ، فإن اتفقوا عليه نفذوه . وإذا كان اختلاف ، فإنه لا حكم في الاختلاف إلا الكتاب والسنة أيضا ، وهذا موضع قوله تعالى:{ فإن تنازعتم}وليس التنازع هو المحاربة ، وإنما التنازع هو الاختلاف في طلب الحق في الأمر ، وقد جاء في تفسير معنى التنازع في مفردات الراغب:"نزع الشيء جذبه . . . والتنازع والمنازعة المجاذبة ، ويعبر بهما عن المخالفة والمجادلة". وكأن كل واحد من المختلفين يجذب من الآخر الحجة لدليله ، ويجعل الحق في جانبه بجذب الحجة على مخالفه ، ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ما لي أنازَعُ القرآن"{[751]} . وذلك أن بعض المأمومين جهر خلفه فنازعه القراءة فشغله ، فنهى_ عليه الصلاة والسلام_ عن الجهر بالقراءة خلفه في الصلاة .
ويجب بهذا النص عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وذلك بالتماس ما يكون من الأحكام متفقا مع المقاصد والغايات التي جاء بها الكتاب والسنة ، وإن لعلماء الإسلام في ذلك منهاجين:أحدهما:أن يبحث في الأصلين عن حكم منصوص عليه يشبه في سبب الحكم الحادثة التي لا يجدون فيها نصا ، وهذا يسمى القياس الفقهي ، وهو ما تيسر عليه الكثرة الكبرى من الفقهاء . والمنهاج الثاني:أن ينظر إلى المقاصد العامة للشريعة ، وهي مصالح الناس ، الثابت الأخذ بها من مجموع النصوص لا من نص بعينه ، فإذا كان في الأمر المتنازع فيه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع ، من غير مخالفة أي نص ، أخذ بها ، وهذا المنهاج أخذ به الإمام مالك ، وأحمد وزيد .
ولكن يرد هنا سؤالان من الذين يجري بينهم التنازع ؟ ومن الذين يتولون رد الأمر إلى الكتاب والسنة ؟ .
والجواب عن السؤال الأول:أن الذين يجري بينهم الخلاف هم أهل الحل والعقد ، وذلك يقتضي أن كون هناك جماعة مصطفاة مختارة تتولى سن النظم ووضع القوانين المشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وهم رجال الشورى الذين ترتضيهم الأمة .
والجواب عن السؤال الثاني:أن الذين يردون الأمر المختلف فيه يجب أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وغاياتها ، وهم علماء الإسلام المتفقهون في أحكامه . ولذلك يجب أن يكون في أهل الحل والعقد ، أو بجوارهم يعملون معهم ، رجال فقهاء الإسلام المخلصين المؤمنين بحقائقه ، الذين لا يغلب عليهم الهوى ، ولا يخضعون لهوى الحكام ، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه .
وإن الله تعالى يقرر- تعالت كلماته- أن ذلك وهو الرد إلى الكتاب شأن أهل الإيمان بالله حقا وصدقا ، والذين لا تغلبهم الدنيا ومتعها العاجلة ، ولذلك يقول{ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} أي إن كنتم تذعنون للحق الذي شرعه الله تعالى لكم وتصدقون وتؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب ، ولم تستول عليكم الدنيا بأهوائها وشهواتها ، فإنكم بلا ريب سترجعون على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه سلم ، ذلك أن المؤمن حقا ومصدقا بالله واليوم الأخر لا تستهويه شهوات الدنيا ، فيظنها مصالح ، بل يذعن لحكم الله دائما ، ولا يكون كأولئك الذين قال الله تعالى فيهم:{ وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون( 48 ) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين( 49 ) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون( 50 )}( النور ) . وإن اتباع القرآن والسنة في الحكم فيه الخير وحسن المآب ، ولذا قال سبحانه:
{ ذلك خير وأحسن تأويلا} إن ذلك الرجوع إلى الكتاب والسنة ، في الفرقان والافتراق ، خير لكم في الدنيا ، لأن فيه مصلحتكم الحقيقية وفيه بعد عن الهوى ، وفيه خضوع لله تعالى . وأحسن تأويلا أي مآلا ونهاية ، وفهما لأمور هذه الحياة ، فإن شئون الحياة معقدة ، تختلط فيها الشهوات بالمصالح ، فلا يمكن فهمها على حقيقتها إذا تشابكت إلا بالرجوع إلى شرع الله ، ففيه الفهم الصحيح ، وفيه الغاية السامية ، وفيه المآل الذي لا شر فيه . فاللهم وفق أمتك للأخذ بشرعتك واجعلنا من الذين لا يحرفون الكلم عن مواضعه ، إنك سميع الدعاء .