مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديبإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى:{أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي ،بعثه رسول الله( ص ) في سرية ...وقال ابن عباسفي رواية باذانبعث رسول الله( ص ) خالد بن الوليد في سريّةٍ إلى حيٍّ من أحياء العرب ،وكان معه عمار بن ياسر ،فسار خالد ،حتى إذا دنا من القوم ،عرّس لكي يصبحهم ،فأتاهم النذير فهربوا عدا رجل كان قد أسلم ،فأمر أهله أن يتأهّبوا للمسير ،ثم انطلق حتى أتى عسكر خالد ودخل على عمار فقال: يا أبا اليقظان إني منكم ،وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وأقمت لإسلامي ،أفنافعي ذلك أو أهرب كما هرب قومي ؟فقال: أقم ،فإن ذلك نافعك ،وانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام ،وأصبح خالد ،فغار على القوم ،فلم يجد غير ذلك الرجل ،فأخذه وأخذ ماله ،فأتاه عمار ،فقال: خلّ سبيل الرجل فإنه مسلم ،وقد كنت أمنته وأمرته بالمقام ،فقال خالد: أنت تجير عليَّ وأنا الأمير ؟فقال: نعم ،أنا أجير عليك وأنت الأمير ،فكان في ذلك بينهما كلام ،فانصرفوا إلى النبي( ص ) فأخبروه خبر الرجل ،فأمّنه النبي( ص ) وأجاز أمان عمار ،ونهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه ،قال: واستبّ عمار وخالد بين يدي رسول الله( ص ) فأغلظ عمار لخالد ،فغضب خالد وقال: يا رسول الله ،أتدع هذا العبد يشتمني ،فوالله لولا أنت ما شتمنيوكان عمار مولى لهاشم بن المغيرةفقال رسول الله( ص ): يا خالد كفّ عن عمّار فإنه من يسب عماراً يسبه الله ومن يبغض عماراً يبغضه الله ،فقام عمار ،فتبعه خالد ،فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه ،فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر .
ولنا ملاحظة ،وهي أن القضية خارجة عن موضوع الأمان والإجارة التي ليس للإنسان أن يمارسها بعيداً عن الأمير المسؤول عن القيام بالمهمة الموكولة إليه من قِبَل النبي( ص ) ،لأن الرجل المذكور في الرواية إنسان مسلم لا يحتاج إلى أمان أو إجارة ،فهو ليس من الأشخاص الذين أرسل النبي خالداً إليهم للإغارة عليهم وإخضاعهم لسيادة الإسلام بقيادة الرسول1 ،بل هو من المسلمين السابقين الذين أسلموا قبل هذه الحادثة ،فلا ينطبق عليه ما ينطبق على الكفار من الأمر بمحاربتهم إلا أن يأخذوا الأمان .وعلى ضوء ذلك ،فإن عماراً لم يخطىء عندما أمر الرجل بالعودة إلى مقرّه الطبيعي في موقع أهله لأنه ليس خاضعاً لمسؤولية خالد العسكرية ،إلا أن يقال: إن خالداً المكلف من قبل النبي( ص ) بالإغارة على هؤلاء الحي من العرب ،كان لا بد أن يأخذ العلم بإسلام هذا الرجل من عمار قبل أن يأذن له عمار بالبقاء في محلته ،ولكن هذا التحفظ ليس وارداً ،لأن خالداً كان ينكر على عمار إجارته بصفة أنه كافر لا بصفة أنه مسلم .
ومع ذلك كله ،فإن المسألة المطروحة في الخط العام صحيحة لأن المفروض أن خالداً ،على تقدير صحة الروايةوهي ضعيفةكان مكلفاً بالأمر القيادي من قبل النبي( ص ) مما جعله ولياً شرعياً في هذه الدائرة الخاصة ،فليس لأتباعه إلا الطاعة والخضوع له في أوامره ونواهيه المتصلة بحركة المسؤولية ،فلا يجوز لهم الاستقلال عنه بأي عمل أو موقف ،لأن معصيته معصية رسول الله( ص ) .
لكن ذلك مختص بالقيادة الشرعية التي تملك شرعية الصفة من خلال العناصر التي تؤكد ذلك ولا تمتد إلى شرعية الأمر الواقع التي تفرض سلطانها بالقوة على الناس من دون أيّ أساس .فلا مجال لاستغلال هذه الآية وهذه الرواية لدعوة المظلومين إلى إطاعة ولي الأمر غير الشرعي ومنعهم من مواجهتهم بالإنكار عليهم وإسقاط مواقعهم الظالمة مما حاوله البعض من أتباع هؤلاء .
القيادة الشرعية وحدها لها حق الطاعة
في هذه الآية ،وفي ما بعدها ،يريد الله سبحانه أن يخطّط للمسلمين ويدخلهم في أجواء النظام ،على أساس النظرية والتطبيق معاً ،فيدعوهم إلى اعتبار الطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر قاعدةً ثابتة ،ترتكز عليها الحياة العامة ؛وهذا ما عالجته هذه الآية في دعوتها إلى طاعة الله{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ} ؛فإنها أساس الإيمان ،لأن معناه العميق يتمثل في الإحساس بعبودية المؤمن لله في كل أفكاره وأقواله وأفعاله ،مما يدفعه إلى السير في حياته وفق أوامر الله ونواهيه ،في ما يحبه وما لا يحبه ؛وفي دعوتها إلى إطاعة الرسول( ص ) ،{وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} في ما تمثله من السير على الخط الذي يرسمه الرسول في تخطيطه للمسار العملي في تفصيلات الأمور ،وجزئيات القضايا ،وحركة الصراع ،وقيادة الأمة إلى أهدافها وتحريك الساحة نحو المواقف الحاسمة في مواجهة التحديات ،وتفجير الطاقات في سبيل الإبداع والعطاء ...وهكذا كانت سنّة رسول الله( ص ) ،المتمثلة في قوله وفعله وتقريره ،الوجه التفصيلي والتطبيقي للمفاهيم القرآنية العامّة ؛فلا مجال للأخذ بالقرآن بشكل دقيق ،إلا بالرجوع إلى السنّة لنعرف من خلالها تفصيل ما أجمله القرآن ،وإيضاح ما أبهمه ،وتخصيص ما أطلقه ،فقد أوكل الله إلى رسوله أمر ذلك كله ،كما أوكل إليه القيام بإدارة شؤون الرسالة وقيادة الأمة ،وذلك بما أوكله إليه من شؤون الحاكمية بالإضافة إلى الرسالة ،عندما جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ،واعتبره حكماً وحاكماً في كل ما اختلفوا فيه ،لتسير الحياة على خطين: خط الرسالة ،وخط القيادة ؛لتكتمل لها شروط الثبات والتقدم والنجاح .ولهذا كان التأكيد في أكثر من آية على إطاعة الرسول ،إلى جانب إطاعة الله ،لئلا يستقل الناس في قضايا التطبيق والتخطيط ،بعيداً عن القيادة الأولى الرسولية ،التي تعرف من عمق المفاهيم وامتدادها ،المدى الذي يمكن أن تتحرّك فيه وتصل إليه .
الرسول جامع لصفات الحاكم والداعي
وربما نستوحي بعض ملامح ذلك في قوله تعالى:{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [ النساء:65] .وهذا هو ما ينبغي لنا التعرف إليه من شخصية الرسول في الإسلام ،فنجد فيه صفة الرسول المبلّغ الداعية ،كما نجد فيه صفة القائد الحاكم المحارب ،الذي يخطّط وينفّذ ،ويمسك بيده زمام الأمر كله ،خلافاً لبعض الباحثين الذين حاولوا اقتصار دور النبي على مهمّة التبليغ والدعوة ،وذلك على أساس بعض الآيات التي تشير إلى ذلك مثل قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} ؛[ الغاشية:2122] .ولكن غاب عن فكر هؤلاء أن مثل هذه الآيات كانت تتحدث عن الجانب الرسالي في شخصيته ،لتحدّد له دوره في إثارة الإيمان في نفوس الناس من خلال الدعوة والإقناع ،لأنه لا يملك السيطرة على كل شروط الإيمان الداخلية في أفكارهم ومشاعرهم ومؤثراتها الخاصة والعامة ،بل الله هو الذي يملك أمر ذلك كله ،من خلال ما يملكه من شؤون الإنسان في ما يريده وما لا يريده ،ولم يكن لهذه الآيات أيّ اتجاه في الحديث عن الجانب التطبيقي أو التنفيذي للمهمات الرسالية العملية في الحياة .
ثم تحدثت الآية عن إطاعة فئة أخرى{وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ} ،الذين أوكل الله إليهم أمر القيام بإدارة شؤون الناس وذلك من خلال القواعد التي وضعها للقائمين على الأمر ،لما يتصفون به من صفات وما يقومون به من مسؤوليات ومهمات ،ولما وضعه من التسلسل في القيادة ،فقد لا يكون لأولي الأمر إطاعة مستقلّة إلا من خلال ارتباطها بإطاعة الرسول ،في ما جعله الله له من ذلك ،لأنهم لا يملكون مهمة التشريع ،بل كل ما هناك أنهم يملكون التحرك في نطاق ساحته على أساس تطبيقي .
من هم أولو الأمر ؟
ولكن من هم أولو الأمر ؟هل هم الذين يتصدّون لولاية الأمر بطريقة واقعية ،انطلاقاً من الوسائل التي يملكونها ،مما يهيّىء لهم الإمكانات العملية للسيطرة والاستيلاء على الحكم ،بعيداً عن الشرعية الإسلامية ؛وذلك من خلال قوة السلاح والمال والرجال ؟هذا ما توهمه البعض ،ممن يسيرون في حياتهم وراء الحكام ،مهما كان لونهم ووضعهم وطريقتهم في الحكم ،ويطلبون من أتباعهم أن يخضعوا لهم ولا يثوروا في وجوههم مهما فعلوا أو ظلموا ،لأن الله أمرنا بإطاعة أولي الأمر ،ولم يحدد لنا صفتهم لنحدّد نحن ذلك في المجال العملي .وقد استطاع هذا المفهوم أن يمكّن الظالمين والمنحرفين والمستكبرين من السيطرة على مقدرات الأمور ،ويجمّد كل إمكانات الثورة ضدّهم من قِبَل الشعوب المسلمة المضطهدة .ونحن نعلم أن الله قد أقام الولاية على أساس العدل ،وركز السلطة على أساس الأيمان والتقوى والسير على الصراط المستقيم ،من خلال ما جاءت به الآيات والأحاديث والروايات ؛مما يمكن أن يكون أساساً لتقييد هذا المفهوم بذلك كله .
وقال البعض: إنه الأمة ؛فهي التي تمثل السلطة الشرعية الصالحة للحكم .وخلاصة فكرتهم أن إطلاق الأمر بالطاعة لشخص أو لجماعة يفرض العصمة فيه ،لأنه إذا كان ممن يجوز عليه الخطأ ،كان الأمر بإطاعتهبشكل مطلقأمراً بالسير على وفق أوامره ونواهيه حتى في حالات الانحراف عن الحق ،وهو غير جائز .وقد دل الدليل على عصمة الأمة ،في رأي هذا القائل ،بالحديث المعروف لدى كثير من المسلمين «لا تجتمع أمتي على ضلالة ...» ،ولكن هذا الرأي لا يرجع إلى قاعدة مركّزة واضحة ،لأن هذا الحديث موضع جدل بين العلماء في صحته وعدم صحته ،ولأن إجماع الأمة كلها لم يتحقق في أي وقت على أي فرد أو جماعة في ولاية الأمر .وأما اعتبار قول أهل الحل والعقد ،فهو قابل للأخذ والرد ،في تعيينهم ،وفي الحكم بإصابتهم في الرأي ،وفي غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تقع محلاً للنقاش ،مما لا يتسع المجال لبحثه .
وقال علماء الشيعة الإمامية: إن المراد بهم الأئمة الاثنا عشر المعصومون ،لأنهم الذين ثبت عن رسول الله( ص ) الأثر في ولايتهم ،كما دلّت آية التطهير على عصمتهم ،بعد أن كانت الآية دليلاً على وجوب عصمة أولي الأمر لإطلاق الأمر بالطاعة ،كما ألمحنا إليه آنفاً .وقد وردت أحاديث كثيرة مستفيضة في إرادة هذا المعنى من الآية .
وقال البعض: إنهم صحابة رسول الله( ص ) ؛وقال بعضهم: إنهم أمراء السرايا والجيوش والعمّال الذين كان يستعملهم رسول الله( ص ) ،على الناس .
وقد تكون الإفاضة في تحليل الأقوال المختلفة في تفسير هذه الكلمة ،تستدعي المزيد من الأبحاث الكلامية ،التي قد لا يكون مجالنا التفسيري متسعاً لها ،لأن القضية لا تنطلق من بحث في المفهوم ؛فهو واضح تمام الوضوح ،بل البحث في المصداق ،في ما يختلف فيه المسلمون من شؤون الولاية ممن يملك السلطة في أمور المسلمين ،فلنقف من ذلك عند حدود العرض الذي عرضناه ،مع الإشارة إلى بعض الملاحظات القصيرة .
1إن الأمر بالإطاعة لا يفرض دائماً عصمة الشخص المطاع ،بل ربما يكون وارداً في مجال التأكيد على حجية قوله ،كما في الكثير من وسائل الإثبات التي أمرنا الله ورسوله بالعمل بها والسير عليها ،في الوقت الذي لا نستطيع التأكيد بأنها تثبت الحقيقة بشكل مطلق ،وكما في الكثير من الأحاديث التي دلّت على الرجوع إلى الفقهاء الذين قد يخطئون وقد يصيبون في فهمهم للحكم الشرعي ،وذلك انطلاقاً من ملاحظة التوازن بين النتائج الإيجابية التي تترتّب على الاتباع لهم ،وبين النتائج السلبية التي تحصل من عدم ذلك ،مع غلبة الجوانب الإيجابية على الجوانب السلبية .وعلى ضوء هذا ،فإننا لا نستطيع اعتبار الأمر بالطاعة دليلاً على تعيين المراد من أولي الأمر بالمعصومين ،بعيداً عن الأحاديث الواردة في هذا المجال .
2إنّ من الممكن السير مع الأحاديث التي تنص على أن المراد من أولي الأمر ،الأئمة المعصومون ،مع الالتزام بسعة المفهوم ؛وذلك على أساس الأسلوب الذي جرت عليه أحاديث أئمة أهل البيت( ع ) ،في الإشارة إلى التطبيق بعنوان التفسير ،للتأكيد على حركة القرآن المستقبلية في القضايا الفكرية والعمليّة الممتدّة بامتداد الحياة ،لأن ذلك هو السبيل الأفضل لوعي الإنسان المسلم للفكرة ،على أساس التطبيق الواضح من أجل أن يرتبط بالواقع بشكل مؤكّد .
3إن هذا الاحتمال الذي يؤكده إطلاق الآية يجعلنا قادرين على التمسك بالآية ،في ما يُثار فيه الجدل كثيراً من أمر الولاية في حال غيبة الإمام ،في ولاية الفقيه ،أو في ولاية أهل الشورى من المسلمين ،وذلك في الحالة التي يصدق عليهم أنهم أولو الأمر من ناحية واقعية .
إن هذه الملاحظات قد تستطيع أن تثير أمامنا بعض الأفكار حول الموضوع ،من أجل الوصول إلى نتيجة حاسمة في مجال التطبيق والاستنتاج ؛والله العالم .
ميزان فض المنازعات في الإسلام
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} فقد يتنازع المؤمنون في قضاياهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونحوها ،فكيف يجب أن يعالجوا أمثال هذه المنازعات ؟ومن هو المرجع ؟إن الآية تحدّد لنا الميزان الذي يزن لنا الحقيقة ،فيعرّفنا الخط الفاصل بين الحق والباطل ؛فليرجعوا إلى الله من خلال كتابه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه ،وليهتدوا بهدي رسول الله( ص ) وسنته ،في ما لا يستطيعون فهمه من القرآن ؛فهما المصدران المعصومان اللذان نستطيع من خلالهما الوقوف عند الحق لنعمل به ،والانطلاق ضد الباطل لنجتنبه ،وذلك هو دليل الإيمان بالله واليوم الآخر ،في ما يفرضه على الإنسان من الالتزام بكتاب الله وسنّة نبيّه ؛لأن الإنسان الذي لا يسير على هذا الخط هو إنسان لا يعيش الانتماء إلى خط الله ورسوله ،لما يعنيه الانتماء من الابتعاد عن كل خطّ آخر غيره ،سواء كان من وحي نفسه أو من وحي الآخرين .
وربما كان من الضروري لهذا الحديث ،الإشارة إلى أن الآية توجهنا إلى السير في هذا الخط في اتجاهين: الاتجاه الفكري ،والاتجاه العملي .فإذا اختلفنا في الخطوط الفكرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يرتكز عليها نظام المجتمع ،فيجب علينا الانطلاق إلى الله والرسول ،لنرسم الخطة على أساس المفاهيم والأحكام والوسائل التي يتضمنها الكتاب والسنّة ،لنحدّد الخط الإسلامي من غيره عندما تشتبك الخطوط أمامنا وتشتبه ؛فهذا هو الذي يحفظ للرؤية الإسلامية وضوحها وسلامتها من الانحراف والخلل ،وهذا هو الذي يؤكد للمسيرة الإسلامية أصالتها وثباتها وتوازنها ،ولهذا حضت الكثير من الأحاديث المسلمين على ضرورة تقديم الأساس بين صحيح الحديث وباطله ،مما يروى عن رسول الله( ص ) وأئمة أهل البيت( ع ) ،بإرجاعه إلى كتاب الله وسنّة نبيه( ص ) ،مؤكدة هذه الروايات بأن «كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف » أو باطل ،وما إلى ذلك من الكلمات التي تقترب من بعضها البعض .
وهذا ما ينبغي لنا مواجهته في ما يخوضه المفكرون المسلمون من صراعات فكرية ،يتحرك بعضها في نطاق الإصرار على الرجوع إلى المصادر الأصيلة للإسلام في الفكر والتشريع والتخطيط وبناء الدولة وإقامة النظام ،ويتحرك بعض آخر ،ليوفّق بين مفاهيم الإسلام القرآنية والنبوية ،وبين المفاهيم الحديثة التي انطلقت في تفكير الفلاسفة الأوروبيين ،وذلك من أجل المحافظة على تحديث الإسلام وعصرنته حتى ينسجم مع مسيرة العصر الحضارية ،وربما يتحرّك في كلا الاتجاهين متطرفون هنا وهناك ،ليتجمد هؤلاء على النص في لفظه بعيداً عن روحه ،وليتحرر أولئك فيتركوا النص تماماً ليستلهموا روحه بطريقة مائعة ،وقد أثار هذا الاختلاف جواً سلبياً في الساحة الإسلامية على مستوى الفكر والعمل .
والآية التي نحن بصددها ليست إلا نوعاً من التذكرة ،بأن النزاع في فهم الفكرة ،وفي طبيعة الخط ،قد يكون له مبرراته الداخلية والخارجية ،ولكن ذلك لا يتأتى بطريقة ذاتية ،بل بالرجوع إلى القواعد الفكرية القرآنية والنبوية لتكون هي الميزان في الفكر الإسلامي الصحيح ،في مواجهة الفكر الزائف ؛فإن ذلك هو علامة الإيمان الحق .أما في الجانب التطبيقي الذي يحكم المسيرة ،فالأمر لا يختلف عن الجانب الفكري ؛لأن قضية الإسلام ليست الإيمان بالفكرة على أساس المعرفة فحسب ،بل العمل على خط الإيمان في حركة الواقع ،فلا يكفي في سلامة المسيرة أن يكون الفكر صحيحاً ،بل ينبغي أن يكون التطبيق سليماً ،لتتكامل الشخصية الإسلامية وتتوازن .وفي ضوء ذلك ،لا بد أن تحل مشاكل الاختلاف في التطبيق على هدى القرآن والسنّة ،ليعرف الإنسان المؤمن أن حياته لم تبتعد عن فكره وإيمانه .
{ذلِكَ خَيْرٌ} الظاهر أن المراد منها أحسن مآلاً ومرجعاً ؛وذلك من خلال المصير الذي ينتهي إليه الإنسان المؤمن الذي يرجع إلى الله ،فيجد عنده الرحمة والرضوان واللطف الكبير .