مناسبة النزول
جاء في أسباب النزولللواحديعن عكرمة ،عن ابن عباس ،قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود في ما يتنافرون إليه فتنافر إليه أناسٌ من أسلم ،فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} إلى قوله{رَفِيقاً} .وعن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت في رجل من الأنصار يقال له قيس ،وفي رجل من اليهود في مماراة كانت بينهما في حق تدارآ فيه ،فتنافرا إلى كاهن بالمدينة ليحكم بينهما وتركا نبي الله( ص ) فعاب الله تعالى ذلك عليهما وكان اليهودي يدعوه إلى نبي الله ،وقد علم أنه لن يجور عليه ،وجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم ويدعوه إلى الكاهن ،فأنزل الله تعالى ما تسمعون وعاب على الذي يزعم أنه مسلم وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب .وهناك روايات أخرى بالمضمون نفسه مع اختلاف في التفاصيل .
وجاء في أسباب نزول آية{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} قال: نزلت في الزبير بن العوام وخصمه حاطب بن أبي بلتعة ،وقيل: هو ثعلبة بن حاطب .وجاء عن عروة بن الزبير عن أبيه أنه كان يحدّث: أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى النبي( ص ) في شراج الحرّة ،كانا يسقيان بها كلاهما ،فقال النبي( ص ) للزبير: اسق ،ثم أرسل إلى جارك ،فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ،فتلوّن وجه رسول الله( ص ) ثم قال للزبير: أسق ،ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ،فاستوفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم للزبير حقه ،وكان قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعةً للأنصاري وله ،فلما أحفظ الأنصاري رسول الله( ص ) استوفى للزبير حقه في صريح الحكم ،قال عروة: قال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} .
وجاء في أسباب نزول آية{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله( ص ) وكان شديد الحب له ،قليل الصبر عنه ،فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن ،فقال له: يا ثوبان ما غيّر لونك ؟فقال: يا رسول الله ما بي من ضرّ ولا وجع ،غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ،ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك ،لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين ،وإني وإن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ،وإن لم أدخل الجنة ،فذاك أحرى أن لا أراك أبداً ؛فأنزل الله تعالى هذه الآية .
ولنا ملاحظات:
1في الروايات الأولى ،حديثٌ عن أن بعض المسلمين كانوا لا يلتزمون القضاء الإسلامي الممثِّل لحكم الله المتمثل بالنبي محمد( ص ) ،فيلجأ في خلافاتهم مع الآخرين إلى كاهن جاهلي لأنهم يرون أن بإمكانهم أن يصلوا إلى ما يريدونه بحكم الجاهلية ،باعتبار أن حكم اللهفي الواقعة الفعلية الخاصةلا يمنحهم الحق ،لأن الحق للخصم الذي قد لا يكون مسلماً بل يهودياًكما جاء في الروايةإذ أراد التحاكم إلى النبي محمد( ص ) لا إيماناً بالإسلام ،بل لأنه يمثل العدل الذي يحكم للكافر على المسلم إذا كان الحق معه ،ويشير ذلك إلى أن البعض من المسلمين لا يعيشون الإسلام من خلال الالتزام بالحق المتحرك معه ،بل ينطلقون بعيداً عنه ،إذا لم يتوافق مع مصالحهم الخاصة التي لا تلتقي بالحق .
2وفي الرواية الثانية ،قد نتحفظ على ما نقله الزبير عن رسول الله( ص ) من رد فعله على كلام الأنصاري ،في أمره الزبير بأن يحبس الماء عن الأنصاري الذي أراد النبي محمد( ص ) التوسعة عليه ،في الوقت الذي لا يملك حقاً فيه ،لأن خُلق رسول الله( ص ) العظيم لا يلتقي مع ذلك ،فإن بالإمكان توبيخ الأنصاري أو إرشاده إلى طبيعة المسألة من حيث الحق الشرعي .
إن ملاحظتنا هذه لا تنبع من أن هذا الموقف يتنافى مع العصمة ،لأن النبي( ص )إذا صحت الروايةلم يفعل شيئاً على خلاف الحق في رد فعله ،ولكنها تنبع من أن الأسلوب النبوي في أخلاقه العالية يرتكز على الدفع بالتي هي أحسن ،بحيث يحوّل العدوّ إلى صديق ،وعلى أنه لا يخضع لسلطان الغضب عليه وهو نبيّ العفو والرحمة ،مما يجعلنا نشك بما روي عن الزبير ،لأنه لا يتناسب مع طبيعة الواقع الأخلاقي الرفيع للشخصية النبوية العظيمة ،مع التنبيه أن الزبيرفي هذه الروايةيتحدث عن اجتهاد شخصي في نزول الآية لتأكيد هذه القصة في قوله: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك .
3وفي الرواية الثالثة التي تتميز بالصورة العاطفية المتمثلة في عشق هذا الإنسان المسلم ( ثوبان ) للنبي( ص ) وذوبانه فيه ،لا نجد انسجاماً بين خصوصياتها الحوارية في حواره مع النبي محمد( ص ) وبين مضمون الآية الذي يعبّر عن القاعدة العامة للمطيعين لله ولرسوله في منزلتهم الرفيعة التي تجعلهم مع النبيين والصديقين والشهداء ،لأنهم يلتقون معهم في خط الاستقامة على السير في رضوان الله في إطاعة أوامره ونواهيه ،لأن ذلك هو الأساس الذي ارتفع به أولئك عند الله ،فليس هناك في الجنة حواجز بين الناس على المستوى الطبقي ،بحيث تتميز كل طبقة عن غيرها في مجال اللقاء أو في الجو الاجتماعي للجنة ،حتى لو تميزت الدرجات عند الله في مستوى الإيمان والطاعة والجهاد ،ولكن امتيازات الجنة تختلف في طبيعتها عن امتيازات الدنيا ،فقد يحصل عليها أصحاب الدرجات الرفيعة والمنازل العليا في الأجواء الروحية في رضوان الله في النعيم الروحي الذي لا يعرف مداه إلا الربانيون في مواقع القرب من الله ،والله العالم .
إننا نحاول التدقيق في روايات أسباب النزول ،لأنها تمثل تصوراً ثقافياً قد يخطىء في إعطاء الصورة الدقيقة الحقيقية للتصور الإسلامي وللمضمون القرآني ،لأن الكثير من هذه الروايات ليس موثقاً بما يضمن الوثوق بها ،كما أن البعض منها يعبر عن اجتهاد الرواة والمفسرين من خلال ذهنياتهم المحدودة الخاضعة لبعض المؤثرات الثقافية المتخلفة ؛الأمر الذي يفرض علينا مناقشة ذلك كله ،لأننا نخشى أن تفرض هذه الرواياتبما فيها من التصوراتنفسها على المفاهيم القرآنية لتبتعد بها عن صفاء الفكرة وإشراقة الصورة وانفتاح التصور .
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} وهذا حديث عن بعض نماذج المنافقين الذين انحرفوا عن الخط الإيماني الذي عرضت له الآية السابقة ،فلم تتوافق دعواهم إلى الإيمان برسالة الرسول محمد( ص ) والرسالات السابقة التي جاء القرآن وأكّد على الإيمان بها كجزءٍ من الإيمان بالإسلام ،مع السلوك العملي من خلال ما يقبلون وما يرفضون من الأشياء ،وما يواجهونه من مواقف عملية في التزامهم بأحكام الله عندما تقترب من مصالحهم ،وتؤثر على ما هم فيه من أطماع وشهوات .وقد حدثتنا هذه الآيات حديثاً وافياً عن ملامحهم الحقيقية ،فها هم يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ،لأنهم يزعمون أنهم يؤمنون به وبالكتب المنزّلة قبله ،ولكنهم يرفضون الانصياع إليه ،لأنه لا يؤمّن لهم رغباتهم المنحرفة ،{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ} الذي يمثل الحكم القائم على الطغيان ،في ما يرتكز عليه من التشريعات المنحرفة الباطلة ؛{وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} في الوقت الذي أراد منهم الإسلامالذي يزعمون الإيمان بهأن يكفروا به فكراً وشريعةً وعملاً ،فقد رأوا في حكم الطاغوت ما يؤمّن لهم أطماعهم وشهواتهم ،وعاشوا الحياة من أجل هذه الأطماع والشهوات بعيداً عن خط الإيمان الحق ،انطلاقاً من الخضوع لإرادة الشيطان في ما وسوس لهم وما خطط لحياتهم ،{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضلالاً بَعِيداً} ليضلهم ضلالاً بعيداً ويبعدهم عن الارتباط بالقاعدة الفكرية والروحية التي تحدّد لهم ما يفعلون وما يتركون ،من موقع المصلحة الحقيقية للحياة والإنسان ،بعيداً عن القضايا الذاتية ،لأنه إذا ابتعد الإنسان عن القاعدة الثابتة في حياته لم يجد لحياته أساساً من الهدى ،مما يدفعه إلى الابتعاد كثيراً عن الخط المستقيم ويسلمه إلى الضياع الفكري والروحي والعملي ،ليغرق في الرمال المتحركة مع الرياح في الصحراء ،حيث لا أرض صلبة يقف عليها ،ولا علامات واضحة تحدّد له ملامح الطريق .
وقد ذكر صاحب مجمع البيان أنه «كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ،فقال اليهودي: أحاكمك إلى محمد ،لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ولا يجور في الحكم ،فقال المنافق ،لا ،بل بيني وبينك كعب بن الأشرف ،لأنه علم أنه يأخذ الرشوة »[ 4] .ولعلّ جوّ الآية يوحي بمثل هذه القصة .وهذا ما نواجهه عند كثير من المسلمين الذين يتحاكمون إلى القوانين والشرائع الكافرة ،التي استطاع الكافر المستعمر أن يخطط لها في البلدان الإسلامية وينفذها بقوة الدولة ،وذلك لإبعاد التشريع الإسلامي عن حكم المسلمين كأسلوب شيطاني لإبعادهم عن دينهم ،عندما تتحرك حياتهم العملية اليومية في اتجاه غير الاتجاه الإسلامي .وقد تتمثل نماذج هؤلاء المسلمين في فريقين:
الأول: الفريق الذي يرفض التحاكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ويفضِّل الرجوع إلى حكم القانون المدنيّ ،عندما يوازن بينهما بالنظر إلى ما يتحقق له من أطماع وغايات شخصية ،فيجد ذلك لدى حكم الطاغوت ،فيعمل به ويدعو إليه .
الثاني: الفريق الذي يرفض العمل من أجل إقامة حكم الله ،ويعمل على محاربة السائرين في هذا السبيل ،لأنه يستريح إلى الأوضاع القائمة التي تجلب له الراحة ،وتؤمّن له سبل العيش الرغيد ،فيحاول تبرير التخاذل والتقاعس بكل ما أوتيه من قوّة ،ويشتد على المؤمنين العاملين في هذا الاتجاه أكثر من اشتداده على الكافرين ،بل يبرّر لهؤلاء العذر في بعض ظلمهم بما لا يبرره للمؤمنين في جهادهم ،وذلك هو الضلال البعيد الذي يريد الشيطان أن يوقعهم فيه .
إن هذه الآية تحدد للمؤمنين الخط الفاصل بين الإيمان والنفاق ؛فالمؤمن هو الذي يلتزم بحكم الله وينطلق نحوه مهما كانت الظروف والنتائج ؛أما المنافق فهو الذي يلتزم بمطامعه وشهواته ،فهي التي تحدّد له الالتزام بالقوانين الموجودة حوله ،سواء كانت قوانين الله أو قوانين البشر ؛وفي ضوء هذا ،لا يمكن للمؤمن أن يعطي الحكم الكافرالذي هو حكم الطاغوتأي نوع من أنواع الشرعية ،بعدما أمر الله أن يكفر به جملةً وتفصيلاً ؛مما يدفعنا إلى إعادة النظر في كثير من الممارسات التي يمارسها البعض ممن يتولون المهمات الدينية الرسمية في بلاد المسلمين ،فيبررون للحكم أوضاعه وخططه ،ويتحدثون عن شرعيته ،تماماً كما يتحدثون عن شرعية الإسلام ؛مما يجعلنا نتحفظ أمام هؤلاء ،لنتعرف في ملامحهم هذه ما تؤكده الآية من ملامح النفاق والمنافقين .